سم الله الرحمن الرحيم
عندما يصبح الاحتلال ... ذكرى!!!
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن تذكر الأشياء المؤلمة عادة ما يكون مؤلما وحزينا بقدر حقيقة الأمر أو أشد، وقد يعتاد الإنسان عليها حتى يبعد زمانها وتنسى، وهذا هو شأن البشر، لكن الأمر الأشد ألما وأنكى هو أن تتحول ذكرى عظيمة مثل احتلال العراق إلى مناسبة عابرة، كتذكر أي حدث عابر في الحياة، وإنها لمصيبة كبيرة يلزم التوقف عندها كثيرا والتفكر فيها مليا.
إن احتلال العراق من قبل أمريكا وإيران ليس حادثة عفوية أو عملية همجية قامت بها ثلة من المجرمين ثم انسحبوا وولوا الأدبار، وعاد كل شيء كما كان، وليس أمرا يوضع على قائمة المناسبات لكي يعد له الإعداد المناسب من مؤتمرات أو ندوات أو مهرجانات، تلقى فيها الكلمات والأشعار وتلهب فيها عواطف الجمهور، ثم تنفض ويعود كل إلى شأنه، إن هذا الاحتلال حدث تاريخي قد غير مجرى حياة الأمة الإسلامية والعربية والعالم أجمع، بكل ما تحمله كلمة التغيير من معنى.
بل يمثل إهانة كبرى وإذلالا ما بعده إذلال للأمتين الإسلامية والعربية، حين تأتي جيوش الصليب من وراء البحار لتطأ أرضا كانت بالأمس مهد الخلافة وحاضرة الإسلام، كاسرة قوى الكفر ومرغمة أنوف الجبابرة، تجبى إليها خيرات أوروبا وآسيا وإفريقيا، ويبعث إليها ملوك الأرض الجزية من فلذات أكبادهم، تحكم بحار الدنيا شرقا وغربا، .... إن هذا لأمر عظيم، لم يأتِ نتيجة فكرة غبية أو كان وليد لحظة عصبية، بل قد خطط له ودبر بعقول لا تعرف الكلل وأعد له بسواعد لا تعرف الملل، أنفقت لأجله أموال الدنيا وخيراتها، وليس أمرا عابرا يحدث مثله الكثير.
فهذه ملل الكفر، قد تظافرت جهودها وتآزرت لأجل الثأر كل يبكي على ليلاه، فعباد الصليب يثأرون لصليبهم، وعباد النار يثأرون لنارهم، كيف لا؟ وخصمهم واحد، كيف لا؟ وهذه الأمة قد أذاقتهم الويلات وأرغمت أنوف أكاسرتهم وقياصرتهم، كيف لا وقد كسرت هذه الأمة القرنين ووطأتهما بأقدامها، قرن روما وقرن فارس، هاتان الملتان اللتان وحّدهما الثأر، وجمعهما العداء للإسلام وأهله، بعد أن كانتا زمانا طويلا من ألد الخصوم الذين عرفتهم الدنيا.
وليس مستغربا أن يحتفل بهذه المناسبة خلفاء الاحتلال وعملاؤه الذين سلمهم مقاليد البلاد وولى هاربا في ليل بهيم بفعل ضربات المجاهدين الأبطال، وليس مستغربا أن يجعلوها عطلة رسمية يتبادلون فيها التهاني والهدايا، كيف لا؟ وهم وكلاء الشريك الشرقي في الاحتلال، ومنفذو أجندات فارس في أرض الإسلام، فهذا يوم عيد لهم لن ينسوه ما عاشوا، وجميل لن يستطيعوا إيفاءه لأمريكا مهما فعلوا، أمريكا التي أزالت الحصن المنيع الذي تكسرت أمامه أطماع الفرس ومحاولاتهم عبر العصور لاستعادة ملكهم وإيوانهم، لقد حُق لهم أن يجعلوا من هذا اليوم مناسبة عظيمة لحشد أنصارهم والتذكير بقضيتهم، وتعبئة جمهورهم لأجل إتمام ما بدؤوا به والثأر من الأمة جميعها.
لكن الغريب أن أمة الإسلام التي طعنت في صميم فؤادها، وأهينت في شرفها وعزتها، لا تتذكر شيئا من ذلك البتة، وليس في قاموسها شيء اسمه احتلال العراق، فضلا عن أن تعمل على تصحيح الوضع الذي خلفه الاحتلال، بل الأدهى من ذلك أنها تتعامل مع الأمر وكأنه في السياق الصحيح!!! وكأن بلدا لم يدمر وأن حضارة عامرة لم تخرب، وأن دماءً زكية لم تسفك، وأرواحا طاهرة لم تزهق، وأن أعراضا عفيفة لم تنتهك، وأن أرض الخلافة لم يمسها إلا الخير والسرور!!! وكأن العراق ليس سوى جزيرة في أقاصي البحار مرت عليها ثلة من القراصنة فحسب!!!
عندما تكون الأمة بهذا المستوى من الشعور بالمسؤولية، وعندما تهون عليها رموز عزتها وعناوين شرفها وكرامتها، وتفقد أبجدية التاريخ وبوصلة الجغرافيا، فإنها سوف تستسيغ طعم الذل وتستمرئ نكهة الإهانة، وتستحيي أن تتكلم بهويتها الإسلامية، فضلا عن أن تدافع بقوتها وجنودها، فهي ترى أبناءها يقتلون في العراق على أيدي خلفاء أمريكا، وتقصف بيوت المدنيين بالمدافع والدبابات والطائرات، ويحرق أبناؤها بالنار لا لشيء سوى أنهم من أهل السنة ولا تحرك ساكنا، ولا نجد وصفا يصدق على هذا الحال مثل قول الشاعر:
ذَلّ مَنْ يَغْبِطُ الذّليل بعَيشٍ ***** رُبّ عَيشٍ أخَفُّ منْهُ الحِمامُ
كُلُّ حِلْمٍ أتَى بغَيرِ اقْتِدارٍ ***** حُجّةٌ لاجئٌ إلَيها اللّئَامُ
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيــــ ***** ـــــــهِ ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
وإذا كانت هذه الذكرى كما وصفنا، من الأهمية والخطورة والفداحة، فإن الواجب اتخاذها وسيلة لشحذ الهمم لا للارتكاس، وسيلة لاستعادة الأمجاد لا للتباكي عليها والنواح، وسيلة لجمع الكلمة ورص الصف لا للهو وإطلاق الشعارات والدعايات، وسيلة لإعادة الأمل ومداواة الجراح لا ذريعة للنوم وتثبيط العزائم وتخذيل العاملين، فرب محنة كانت منحة، ورب مصيبة تحمل الفرج بين أضلعها، ورب فاجعة يأتي بعدها الفجر المبين.
وهذه سنن الله في خلقه، فهو الحكيم سبحانه وبحمده، (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فالخير يأتي في ثنايا المحن والشدائد، والنصر لم يأت يوما من البشر، والفرج لم يكن يوما بيد أحد من الناس، فالله سبحانه يري الناس من البلايا والمصائب ما يشاء، ويريهم من النعيم ومتاع الدنيا ما يشاء، وهم في الحالين ما بين الصبر والشكر، وكلاهما خير، ولئن طالت أيام المحن وازدادت حلكة لياليها، فذلك مؤذن بقرب الفرج وطلوع الفجر،
فقد تورق الأغصان بعد ذبولها ***** ويبدو ضياء الفجر في ظلمة الوهن
والمؤمن يظن الخير بالله سبحانه دائما، ويرجو منه حسن العاقبة، ويعمل على وفق ذلك، في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.
ومن يظن أن الأمر قد انتهى وأن الأوان قد فات على استعادة الحقوق، وأن الحل هو التسليم بالواقع والسير معه حيث سار، فقد وهم وهما عظيما، وافترى على الله إثما مبينا، فحاشا لله أن يسلم المؤمنين للكفار يستبيحون بيضهم، مهما طال الزمن وتعاقبت الممالك، فعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وفي المسند عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ.
فالله ناصر دينه ومعز أهل طاعته، شاء من شاء وأبى من أبى، والمفلح من وجد له مكانا في قافلة السائرين إلى الله، كيف لا؟ وهو القائل سبحانه: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)، والقائل: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، والقائل: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وما على المؤمنين سوى العمل الجاد والصبر على مراد الله سبحانه، فإن رأى الله منهم ما يحب أراهم منه ما يحبون، سبحانه وبحمده.
وهذا وعد من لا يخلف الميعاد سبحانه وبحمده، لكن الإنسان عجول سريع التأثر، يؤثر الدعة ويكره المشقة، يحب الكسل ويكره العمل، ووعد الله لا يؤتاه إلا العاملون المثابرون، الصابرون المجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، الذين باعوا لله فربح بيعهم، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
فمن ذكرى الاحتلال ينطلق الأمل، وتنهض الأمة للعمل، ومن ذكرى الاحتلال يبزغ الفجر، ومن ذكرى الاحتلال تستنهض الهمم لاستعادة الأمجاد، ومن ذكرى الاحتلال تتجدد المفاهيم، وتتضح الرؤى وتتسع الآفاق، ومن ذكرى الاحتلال تتجدد الثقة بوعد الله سبحانه، وفي ذكرى الاحتلال تتجدد العهود على السير إلى الله بثبات نحو الأهداف العظيمة والمقاصد السامية، لأجل إعادة الأمور إلى نصابها، ووضع الأمر في يد أهله، وبعد الاحتلال لا عودة إلى الوراء، ولا نكوص عن الطريق، ولا وقت للنوم والراحة، ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ.
نسأل الله العظيم أن يلبس أمتنا ثوب العزة والمنعة، ويعيدها إلى عزها ومجدها وسؤددها، آمنة مطمئنة، عاملة بشرعه، حاكمة بدينه، مجاهدة في سبيله، ويرفع عنها سيف الذل وتسلط الأعداء، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد تعز فيه أهل طاعتك وتذل فيه أهل معصيتك، تحقن فيه دماء المسلمين، وتحمي ديارهم وتصون حرماتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، وصل اللهم وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تيار أمة الخير والإصلاح – تكامل
12 جمادى الآخر 1435 هـ
12-4-2014 مـ
عندما يصبح الاحتلال ... ذكرى!!!
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن تذكر الأشياء المؤلمة عادة ما يكون مؤلما وحزينا بقدر حقيقة الأمر أو أشد، وقد يعتاد الإنسان عليها حتى يبعد زمانها وتنسى، وهذا هو شأن البشر، لكن الأمر الأشد ألما وأنكى هو أن تتحول ذكرى عظيمة مثل احتلال العراق إلى مناسبة عابرة، كتذكر أي حدث عابر في الحياة، وإنها لمصيبة كبيرة يلزم التوقف عندها كثيرا والتفكر فيها مليا.
إن احتلال العراق من قبل أمريكا وإيران ليس حادثة عفوية أو عملية همجية قامت بها ثلة من المجرمين ثم انسحبوا وولوا الأدبار، وعاد كل شيء كما كان، وليس أمرا يوضع على قائمة المناسبات لكي يعد له الإعداد المناسب من مؤتمرات أو ندوات أو مهرجانات، تلقى فيها الكلمات والأشعار وتلهب فيها عواطف الجمهور، ثم تنفض ويعود كل إلى شأنه، إن هذا الاحتلال حدث تاريخي قد غير مجرى حياة الأمة الإسلامية والعربية والعالم أجمع، بكل ما تحمله كلمة التغيير من معنى.
بل يمثل إهانة كبرى وإذلالا ما بعده إذلال للأمتين الإسلامية والعربية، حين تأتي جيوش الصليب من وراء البحار لتطأ أرضا كانت بالأمس مهد الخلافة وحاضرة الإسلام، كاسرة قوى الكفر ومرغمة أنوف الجبابرة، تجبى إليها خيرات أوروبا وآسيا وإفريقيا، ويبعث إليها ملوك الأرض الجزية من فلذات أكبادهم، تحكم بحار الدنيا شرقا وغربا، .... إن هذا لأمر عظيم، لم يأتِ نتيجة فكرة غبية أو كان وليد لحظة عصبية، بل قد خطط له ودبر بعقول لا تعرف الكلل وأعد له بسواعد لا تعرف الملل، أنفقت لأجله أموال الدنيا وخيراتها، وليس أمرا عابرا يحدث مثله الكثير.
فهذه ملل الكفر، قد تظافرت جهودها وتآزرت لأجل الثأر كل يبكي على ليلاه، فعباد الصليب يثأرون لصليبهم، وعباد النار يثأرون لنارهم، كيف لا؟ وخصمهم واحد، كيف لا؟ وهذه الأمة قد أذاقتهم الويلات وأرغمت أنوف أكاسرتهم وقياصرتهم، كيف لا وقد كسرت هذه الأمة القرنين ووطأتهما بأقدامها، قرن روما وقرن فارس، هاتان الملتان اللتان وحّدهما الثأر، وجمعهما العداء للإسلام وأهله، بعد أن كانتا زمانا طويلا من ألد الخصوم الذين عرفتهم الدنيا.
وليس مستغربا أن يحتفل بهذه المناسبة خلفاء الاحتلال وعملاؤه الذين سلمهم مقاليد البلاد وولى هاربا في ليل بهيم بفعل ضربات المجاهدين الأبطال، وليس مستغربا أن يجعلوها عطلة رسمية يتبادلون فيها التهاني والهدايا، كيف لا؟ وهم وكلاء الشريك الشرقي في الاحتلال، ومنفذو أجندات فارس في أرض الإسلام، فهذا يوم عيد لهم لن ينسوه ما عاشوا، وجميل لن يستطيعوا إيفاءه لأمريكا مهما فعلوا، أمريكا التي أزالت الحصن المنيع الذي تكسرت أمامه أطماع الفرس ومحاولاتهم عبر العصور لاستعادة ملكهم وإيوانهم، لقد حُق لهم أن يجعلوا من هذا اليوم مناسبة عظيمة لحشد أنصارهم والتذكير بقضيتهم، وتعبئة جمهورهم لأجل إتمام ما بدؤوا به والثأر من الأمة جميعها.
لكن الغريب أن أمة الإسلام التي طعنت في صميم فؤادها، وأهينت في شرفها وعزتها، لا تتذكر شيئا من ذلك البتة، وليس في قاموسها شيء اسمه احتلال العراق، فضلا عن أن تعمل على تصحيح الوضع الذي خلفه الاحتلال، بل الأدهى من ذلك أنها تتعامل مع الأمر وكأنه في السياق الصحيح!!! وكأن بلدا لم يدمر وأن حضارة عامرة لم تخرب، وأن دماءً زكية لم تسفك، وأرواحا طاهرة لم تزهق، وأن أعراضا عفيفة لم تنتهك، وأن أرض الخلافة لم يمسها إلا الخير والسرور!!! وكأن العراق ليس سوى جزيرة في أقاصي البحار مرت عليها ثلة من القراصنة فحسب!!!
عندما تكون الأمة بهذا المستوى من الشعور بالمسؤولية، وعندما تهون عليها رموز عزتها وعناوين شرفها وكرامتها، وتفقد أبجدية التاريخ وبوصلة الجغرافيا، فإنها سوف تستسيغ طعم الذل وتستمرئ نكهة الإهانة، وتستحيي أن تتكلم بهويتها الإسلامية، فضلا عن أن تدافع بقوتها وجنودها، فهي ترى أبناءها يقتلون في العراق على أيدي خلفاء أمريكا، وتقصف بيوت المدنيين بالمدافع والدبابات والطائرات، ويحرق أبناؤها بالنار لا لشيء سوى أنهم من أهل السنة ولا تحرك ساكنا، ولا نجد وصفا يصدق على هذا الحال مثل قول الشاعر:
ذَلّ مَنْ يَغْبِطُ الذّليل بعَيشٍ ***** رُبّ عَيشٍ أخَفُّ منْهُ الحِمامُ
كُلُّ حِلْمٍ أتَى بغَيرِ اقْتِدارٍ ***** حُجّةٌ لاجئٌ إلَيها اللّئَامُ
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيــــ ***** ـــــــهِ ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
وإذا كانت هذه الذكرى كما وصفنا، من الأهمية والخطورة والفداحة، فإن الواجب اتخاذها وسيلة لشحذ الهمم لا للارتكاس، وسيلة لاستعادة الأمجاد لا للتباكي عليها والنواح، وسيلة لجمع الكلمة ورص الصف لا للهو وإطلاق الشعارات والدعايات، وسيلة لإعادة الأمل ومداواة الجراح لا ذريعة للنوم وتثبيط العزائم وتخذيل العاملين، فرب محنة كانت منحة، ورب مصيبة تحمل الفرج بين أضلعها، ورب فاجعة يأتي بعدها الفجر المبين.
وهذه سنن الله في خلقه، فهو الحكيم سبحانه وبحمده، (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فالخير يأتي في ثنايا المحن والشدائد، والنصر لم يأت يوما من البشر، والفرج لم يكن يوما بيد أحد من الناس، فالله سبحانه يري الناس من البلايا والمصائب ما يشاء، ويريهم من النعيم ومتاع الدنيا ما يشاء، وهم في الحالين ما بين الصبر والشكر، وكلاهما خير، ولئن طالت أيام المحن وازدادت حلكة لياليها، فذلك مؤذن بقرب الفرج وطلوع الفجر،
فقد تورق الأغصان بعد ذبولها ***** ويبدو ضياء الفجر في ظلمة الوهن
والمؤمن يظن الخير بالله سبحانه دائما، ويرجو منه حسن العاقبة، ويعمل على وفق ذلك، في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.
ومن يظن أن الأمر قد انتهى وأن الأوان قد فات على استعادة الحقوق، وأن الحل هو التسليم بالواقع والسير معه حيث سار، فقد وهم وهما عظيما، وافترى على الله إثما مبينا، فحاشا لله أن يسلم المؤمنين للكفار يستبيحون بيضهم، مهما طال الزمن وتعاقبت الممالك، فعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وفي المسند عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ.
فالله ناصر دينه ومعز أهل طاعته، شاء من شاء وأبى من أبى، والمفلح من وجد له مكانا في قافلة السائرين إلى الله، كيف لا؟ وهو القائل سبحانه: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)، والقائل: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، والقائل: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وما على المؤمنين سوى العمل الجاد والصبر على مراد الله سبحانه، فإن رأى الله منهم ما يحب أراهم منه ما يحبون، سبحانه وبحمده.
وهذا وعد من لا يخلف الميعاد سبحانه وبحمده، لكن الإنسان عجول سريع التأثر، يؤثر الدعة ويكره المشقة، يحب الكسل ويكره العمل، ووعد الله لا يؤتاه إلا العاملون المثابرون، الصابرون المجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، الذين باعوا لله فربح بيعهم، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
فمن ذكرى الاحتلال ينطلق الأمل، وتنهض الأمة للعمل، ومن ذكرى الاحتلال يبزغ الفجر، ومن ذكرى الاحتلال تستنهض الهمم لاستعادة الأمجاد، ومن ذكرى الاحتلال تتجدد المفاهيم، وتتضح الرؤى وتتسع الآفاق، ومن ذكرى الاحتلال تتجدد الثقة بوعد الله سبحانه، وفي ذكرى الاحتلال تتجدد العهود على السير إلى الله بثبات نحو الأهداف العظيمة والمقاصد السامية، لأجل إعادة الأمور إلى نصابها، ووضع الأمر في يد أهله، وبعد الاحتلال لا عودة إلى الوراء، ولا نكوص عن الطريق، ولا وقت للنوم والراحة، ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ.
نسأل الله العظيم أن يلبس أمتنا ثوب العزة والمنعة، ويعيدها إلى عزها ومجدها وسؤددها، آمنة مطمئنة، عاملة بشرعه، حاكمة بدينه، مجاهدة في سبيله، ويرفع عنها سيف الذل وتسلط الأعداء، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد تعز فيه أهل طاعتك وتذل فيه أهل معصيتك، تحقن فيه دماء المسلمين، وتحمي ديارهم وتصون حرماتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، وصل اللهم وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تيار أمة الخير والإصلاح – تكامل
12 جمادى الآخر 1435 هـ
12-4-2014 مـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق