الجهاد الشامي ومسارات الفتنة
الانقسام
(4)
د. أكرم حجازي
20/4/2014

الجهاد في العراق حدث له تاريخية تستدعي القراءة العميقة وليس سوْق الاتهامات العشوائية والمغرضة من كل حدب وصوب. إذ أن كل مرحلة من مراحله لها تاريخية خاصة بها لا يصح تناولها بمنطق الخصومة سواء في ميادين الحدث العراقي أو في ميادين الحدث الشامي. كما أنه لا يصح أيضا إحالة تلك الكوارث فقط إلى سياسات القوى الجبرية وأدواتها التي لا يمكن أن تجد لها طريقا ممهدا ما لم يكن هنالك من أفسح لها الطريق بعلم أو بجهل أو غلو أو هوى أو حماقة أعيت من يداويها.
ما من أحد في الأمة إلا ويعلم اليوم أنه ثمة مشكلة طاحنة يجب الاعتراف بها ومواجهتها بشجاعة وإيمان، وبكل ما تحتاجه من شمولية وموضوعية وإنصاف وحكمة وتقوى وليس التنصل منها أو اعتزالها أو ممارسة الهدم كيفما كان أو تحميل هذا الطرف دون ذاك مسؤوليتها. فليس ثمة فرد أو جماعة أو حركة في الشام أو في أية ساحة من ساحات الجهاد ملائكة وشياطين .. بل بشر؛ وصحابة أصابوا وأخطؤوا والوحي ينزل؛ فكيف بحال من هم تحت « الجبر»؟
في استعراضنا للمشكلة سنعتمد أكثر ما يكون على الوثائق الرسمية والشهادات الموثقة مرئيا وسمعيا وكتابة بعيدا عما تعج به وسائل التواصل الاجتماعي والشبكات الإسلامية من مهاترات وفبركات وأكاذيب وفجور في الخصومة فاق كل التصورات. وفي هذه الحلقة سنعرض لأربعة محاور هي:
أولا: تاريخية إعلان « الدولة» في العراق
ثانيا: خطاب « التمدد»
ثالثا: تأسيس جبهة « النصرة»
رابعا: التعقيب على « الوثيقة»
أولا: تاريخية إعلان « الدولة» في العراق
ففيما يتعلق بـ « دولة العراق الإسلامية» فلم يكن تأسيسها « كرتونيا» ولا عشوائيا بقدر ما كان نتاج لتاريخية دشنت انطلاقتها الأولى رحلة أبو مصعب الزرقاوي من هيرات في أفغانستان إلى بغداد. وقد ذكر أبو حسين المهاجر، الذي عاصر بعضا من تجربة « القاعدة» في العراق، في كتاب له ظهر سنة 1427هـ بعنوان: « الانتصار لأهل التوحيد - 27 ذي القعدة سنة 1427 هـ، ص 14»، بعضا من هذه التاريخيات.
• التاريخية الأولى، مرت فيها « القاعدة» بمرحلتين من التطور وهما:
- « الحاجة إلى وجود قيادة واضحة».
فقد دفع اتساع حجم الجماعة ( جماعة الزرقاوي ما قبل التنظيم) ونشاطها العسكري أبو أنس الشامي إلى حاجة الجماعة إلى أمير يقودها ويسهر على شؤون الجهاد والمجاهدين. وتبعا لذلك استقر الرأي على أبو مصعب الزرقاوي الذي يبدو أنه لم تكن تعنيه القيادة فعلا.
- « الحاجة إلى تنظيم العمل».
فقد استعرت الحرب، وتم تنفيذ سلسلة من العمليات الكبرى دون أن يعلن عنها أحد، الأمر الذي أغرى بعض الجماعات، حتى لو كانت وهمية أو بهدف تحقيق مكاسب معينة، كي تتقدم وتتبنى: « بعضاً منـ }ها{ زوراً وبهتاناً»، فما كان من أبي أنس الشامي إلا أن بادر للمرة الثانية، وبإصرار: « على وضع اسم للجماعة، حفاظاً على ثمرة الجهاد ... فكان هذا الاسم جماعة التوحيد والجهاد».
• التاريخية الثانية كانت في مبايعة الزرقاوي لتنظيم « القاعدة»، والتي أسفرت عن تأسيس « قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين - 8/1/2004»؛
• التاريخية الثالثة حين الإعلان عن تأسيس « مجلس شورى المجاهدين - أكتوبر/ تشرين الأول2005»، والذي تخلى فيه الزرقاوي عن القيادة لصالح عبد الله رشيد البغدادي. أما ما عرف بـ « حلف المطيبين - 13/10/2006» فلا يرقى إلى أن يكون بمثابة تاريخية رابعة كونه جاء فقط كمعطى إعلامي خبري لا يفصله عن التاريخية الرابعة سوى يومين، فضلا عن أنه خلا من أية معلومات يمكن الاستناد إليها في التحليل لمعرفة وزنها الحقيقي في الواقع. وكل ما لدينا شريط مقتضب ظهر فيه بضعة ملثمين قيل أنهم من قادة العشائر ومجلس الشورى يتعاهدون فيه على تحكيم الشريعة والانتصار للجهاد والمجاهدين في العراق.
التاريخية الرابعة بدأت تباشيرها الأولى تظهر بعيد الخطاب المرئي الشهير للزرقاوي « هذا بيان للناس - 25/4/2006»، والذي تسربت منه مقتطفات لم يتضمنها، وهو يحاور بعض مجالسيه، حول إمكانية إعلان إمارة إسلامية في غضون ثلاثة أشهر، إلا أنه قتل قبل أن يعلن الإمارة، فجاء الإعلان من خلَفه أبو عمر البغدادي بصيغة « دولة العراق الإسلامية - 15/10/2006».
الجريمة
من اللحظة الأولى لإعلانها تعرضت « الدولة» لحرب ضروس في الوقت الذي كانت تخوض فيه أخرى مثيلة ضد القوى الدولية والمليشيات الشيعة والمرتزقة وحكومة المالكي، إلى أن أعلنت الحرب على المصالح الإيرانية في العراق، وأعطت مهلة شهرين لكل من تربطه من العراقيين علاقة عمل أو تجارة مع إيران لتصفيتها. إلا أن مشروع الصحوات عاجلها قبل أن تنفذ تهديدها. هذا المشروع كان من تدبير أمريكي بامتياز، ولعل أبرز ما في هذا السياق تخصيص الإدارة الأمريكية لمبلغ 23 مليار$ لمواجهة « دولة العراق الإسلامية» بحسب المتحدثة باسم البيت الأبيض، والأهم منه تصريح ستيفن بيدل، كبير الخبراء في السياسات الدفاعية في مجلس العلاقات الدولية الأميركية، حين وصف المشروع بأنه « أنجح صفقة بتأريخ الحروب». وكانت أول إنجازاته اختراق بعض أبرز قيادات الجماعات الجهادية ذاتها، بغية الحصول على مشروعية الطلقة الأولى، قبل أن يوفر لهذه الطلقة ما يلزم من الشرعيات الاجتماعية والعقدية والحركية التي لم تكن تجرؤ على المساس بالمشروع الجهادي أو المجاهرة بولائها للأمريكيين وترحيبها بهم.
بطبيعة الحال لا نعني بالاختراق كمرادف حصري للعمالة أو الخيانة في المبدأ والمنتهى، رغم أنه، بهذا المعنى، ينطبق على بعض الشخصيات والقوى السياسية التي اعتادت ألا ترى في الولايات المتحدة أصلا إلا قبلة تُتَّبَع، ومع ذلك فالمفهوم يتسع ليشمل توظيف التباينات في المنظومة الفكرية وإجمالي التصورات الذهنية والأيديولوجية وحتى التأويلات الشرعية على مستوى الأفراد والجماعات، بما يخدم السياسة الأمريكية بوعي أو بدون وعي.
إعلان « الدولة»، بحد ذاته، أو توصيف البغدادي الأول ( أبو عمر) لمن لم يبايع « الدولة» بـ « العصاة»، لم يكن هو مَن أثار غالبية الجماعات الجهادية ضد « الدولة». بل مضمون الإعلان وهويته وأهدافه وتطلعاته كمشروع ترى فيه « الدولة» نواة للخلافة الراشدة في حين تراه القوى الأخرى حلما بعيد المنال. فالجماعات الجهادية لم تكن لتتحمل قيام دولة إسلامية ولا حتى تطبيق الشريعة، ولم يكن الأمر يتعلق بمدى السيطرة الفعلية لـ « الدولة» على الأرض أو بغيرها ولا بالأمير المجهول أو المعلوم، لاسيما وأن كافة أمراء الجماعات كانوا أخفياء عن الإعلام تماما، ولا بهذا أو بذاك بقدر ما بدت الجماعات محترزة من صراع طويل وقانعة بإعادة تقاسم السلطة وتقديم ما يلزم من الضمانات الأوروبية أو الروسية أو الإسبانية لحفظ المصالح الأمريكية والغربية كمقدمة للاندراج مجددا في صيغة النظام الدولي القائم.
والحقيقة التاريخية التي لا تحتاج إلى جدل تؤكد أن الذين عارضوا إعلان « الدولة» لم يوافقوا من قبل على مقترحات التوحد التي جاءت في اجتماع الفلوجة الثاني لمواجهة الأمريكيين، ولا على الانضمام إلى « مجلس شورى المجاهدين»!! هذا الخيط التقطته مؤسسة « راند» لتوصي في دراسة لها القيادة الأمريكية بالعمل على زرع الخلافات بين الجماعات الجهادية. ففي 18/11/2006 تناقلت وسائل الإعلام الدولية والعربية نبأ دراسة للمؤسسة عن تنظيم « القاعدة» توصي فيها المسؤولين وأصحاب القرار الأمريكي بضرورة توجيه الحرب ضد « القاعدة» انطلاقا من عقيدتها وليس مواجهتها عسكريا فحسب. وتقضي التوصية التي رفعتها المؤسسة بهذا الخصوص بالعمل على: « زرع الخلافات بين تنظيم القاعدة والحركات الجهادية المحلية في مواطنها»، مشيرة إلى أن: « عقيدة القاعدة تعاني من نقاط ضعف قابلة للاستغلال»؛ تأسيسا على أن: « عقيدة القاعدة لا تتبناها جميع الحركات الإرهابية أو المتمردة في العالم»، وبالتالي دعوة الولايات المتحدة: « إلى محاولة ضرب العلاقة بين المجموعات الجهادية المحلية والمجموعات العالمية، عبر التركيز على الخلافات بينها» .. هذا ما قالته الباحثة أنجيل راباسا، التي ساهمت في الإشراف على الدراسة.
كانت الحاجة الأمريكية ماسة لتحقيق هدفين بأقصى سرعة: (1) وقف المد الجهادي الإسلامي ومحاصرة الأطروحة العقدية التي باتت تسري في أنحاء العالم الإسلامي، والتي عبر عنها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في خطاب له خلال زيارته العاصمة الاندونيسية - جاكارتا بالقول: « إنهم يريدون إقامة خلافة»، و (2) منع انهيار القوات الأمريكية في العراق. والمؤكد قطعا أن تقرير الجنرالات الأمريكيين كان حاسما في وقف الجدل، والمسارعة في إطلاق مشروع الصحوات خاصة بعد أن كشفت صحيفة « الغارديان - 1/3/2007 » البريطانية النقاب عن التقرير تحت عنوان: « القادة العسكريون الأميركيون يعترفون: نواجه انهيارا مثيلا لانهيارنا في فيتنام»، قالت فيه: « إن فريقا من نخبة الضباط الأميركيين في بغداد توصلوا إلى قناعة مفادها أنه لم يعد أمام أميركا سوى ستة أشهر للانتصار في الحرب على العراق أو مواجهة انهيار على الطريقة الفيتنامية... وقولهم أن هذا الانهيار سيكون أولا في مدى التأييد الشعبي والسياسي، ما قد يجبر الجيش على سحب قواته بصورة متعجلة »، في حين عبر نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني عن رغبة بلاده بإنهاء مهمتها في العراق و « العودة بشكل مشرف». هذا التقرير أصاب بوش بنوع من الهستيريا عندما صرخ مخاطبا الدول العربية بالقول: « لما لا يتحركون وهم يعلمون أنهم مستهدفون مثلنا؟» تبعه تحرك كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأمريكي، التي حضرت إلى المنطقة وعقدت اجتماعا مع مدراء أربعة أجهزة مخابرات عربية!!! أما روبرت غيتس، وزير الدفاع الأمريكي الجديد آنذاك، قد أفصح عن مكنون الولايات المتحدة في ترجمة الاختراق في صورة عملية سياسية مشددا على أنه من غير الممكن تخفيض درجة العنف تمهيدا لاحتوائه والقضاء عليه ما لم يتم استرضاء أهل السنة، أما الوسيلة الأنجع في إغرائهم، ولكن بإشراف أمريكي، فهي التحول من إطلاق يد الشيعة إلى إطلاق يد السنة وإدخالهم في العملية السياسية.
كانت الاجتماعات والاتصالات والتنسيق مع الكثير من القوى السياسية والجهادية تدور حول فكرة أن الولايات المتحدة بصدد الانسحاب من العراق، وأنه إذا لم تتوافق القوى السنية فيما بينها وتشكل قوة موازية للشيعة تحفظ بموجبها حقوقها وسلامة العراق وأمنه فإنها ستخسر. ولأن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة لتحمل المزيد من الاستنزاف في قواتها ومواردها واقتصادها، فإن انسحابها سيعني في المحصلة أن العراق سيكون بين يدي الشيعة أو « القاعدة». لذا ما من حل يحفظ للسنة حقوقهم إلا بإغرائهم سياسيا بحيث تصبح « القاعدة» هي العقبة التي لا بد من التخلص منها.
والحق أن الأمريكيين كانوا قد شرعوا، كعادتهم، في عمليات اختراق مبكرة انطلقت من سجن بوكا، إلى جانب اختراقات أخرى قادتها اجتهادات سياسية مالت بطبيعتها إلى المشاركة في العملية السياسية سرا أو جهرا، وأخرى قبلت بتفاهمات مع الحكومة العراقية على بعض القضايا الحيوية كالنفظ والكهرباء، وعمليات اختراق وقعت على خلفية الافتراق في أهداف الجهاد، ومثلها حركية تصدرتها تيارات وجماعات وشخصيات اجتماعية وقبلية وجهادية وقوى إسلامية وعلماء ومشايخ داخل العراق وخارجه، فضلا عن الجهود الاستخبارية الإقليمية والدولية التي مولت ووفرت الغطاء الشرعي والسياسي والإعلامي. ومن الطريف أنه قبل انطلاق المشروع ميدانيا بحملات تحريض وتشويه إعلامية ضارية، وسط انشقاق جماعات وتشكيل جبهات واصطفاف فضائيات وتصدير فتاوى كانت عمليات الاغتيال بحق عناصر « القاعدة» وقياداتها قد سبقته بعام. وخير من قام بتوصيف هؤلاء هو « سفر الحقيقة» الذي أصدرته جماعة أنصار الإسلام في 14/7/2008. وفي معرض الحديث عن « جبهة الجهاد والإصلاح» التي شكلها « الجيش الإسلامي» للغرض مع بعض الجماعات الأخرى الوهمية أو الحقيقية أقر السفر، وللمرة الأولى، أن: « البوادر الأولى لمواقف تلك الجبهات ظهرت بعد أحداث العامرية، وديالى، والرمادي، وذلك بعد أن قاموا بترجمة المطالب الأمريكية قبل تنفيذ الوعود المقطوعة لهم، كعربون لتوطيد علاقة الجبهة بأمريكا، فبدأت الأيادي التي تدعم مشروع الجبهة بضخ أموال طائلة إلى الساحة«. هؤلاء الذين اتخذوا على عاتقهم « الوقوف كتلة بوجه القاعدة» كما يقول أبو عبد الله الشافعي أمير « الأنصار» هم بلغة « السفر»:
« [ الفريق الضخم من تحالف العملاء، والمنافقين، على اختلاف أشكاله وأنواعه، متوافقون، أو متنافسون، أو متحاربون، لا يخرجون عن دائرة العمالة للمحتل، والنفاق للمجتمع، وهم أولاً وآخراً، عيون المحتل، واستخباراته، متلونين بكافة ألوان اللغات السياسية، والمبادئ، والقيم.
1) لا يجمعهم منهج مبدئي ثابت، ولا قيميٌ أصيل، بل الجامع والرابط لهم بالمحتل المصلحة الآنية المتحققة،
2) ولا تقتصر هذه الفئات العميلة على تيارٍ فكريٍ بعينه, ولا زمرةٍ عرقية، أو دينية معينة..
3) وفي هذا الطابور، ترفع الرايات بمختلف الشعارات، والهويات، بدءاً من الإسلامية المزعومة, ومروراً بكامل ألوان الطيف السياسي!!
4) وجميعهمٍ لا ينتمون إلى أمة الإسلام إلا بالأسماء والأشكال ] ».
ما بين إعدام الرئيس العراق صدام حسين صبيحة عيد الأضحى في 30/12/2006 و صدور بيان « الجيش الإسلامي - 5/4/2007» الذي دشن الاقتتال على الساحة العراقية ظهرت بوادر حملة إعلامية منسقة سبقت البيان، وقد تصدرتها آنذاك قناة « الزوراء » لصاحبها مشعان جبوري، مع العلم أن القناة ظلت تبث طوال عامين عمليات « القاعدة» و « دولة العراق الإسلامية» وبعض خطابات « القاعدة»!! ويبدو أن هذه السياسة استهدفت عامة الناس وخاصتهم حتى إذا ما ألفوها واعتادوا عليها أمكن تمرير خطاب الفتنة إلى عشرات الملايين من المسلمين. وفيما يلي بعض ما فعلته القناة:
- في 2/1/2007 نظمت قناة « الجزيرة» حلقة مميزة من برنامج الاتجاه المعاكس عقب يومين من إعدام الرئيس صدام حسين بين صادق الموسوي ومشعان الجبوري صاحب قناة « الزوراء» العراقية المطاردة و « الممنوعة» من بث البرامج إلا من عمليات المجاهدين في العراق بما فيها عمليات « دولة العراق الإسلامية» فضلا عن خطابات بعض قيادات « القاعدة» ورموزها!! وقد لوحظ أن الحلقة كانت عاصفة للغاية وغريبة للغاية بحيث افتتحها الجبوري بقراءة الفاتحة على روح الرئيس ليظهر زعيما وطنيا وعربيا هتف له الملايين من العرب والمسلمين على تصديه الشجاع للموسوي الذي ثبت أنه إيراني وليس عراقي!
- في الفترة ما بين 13/2/2007 - 15/2/2007 شرعت قناة « الزوراء»، ودون سابق إنذار، في بدء حملة إعلامية معادية للقاعدة ولـ « دولة العراق الإسلامية». إذ ظهر في الشريط الإخباري للقناة عبارات هجومية حادة من نوع: « المقاومون العراقيون يرفضون استهداف تنظيم القاعدة للمدنيين الآمنين والأسواق لأن ذلك يبدد وحدة الشعب العراقي ... المقاومون يرفضون مبايعة من يدعو إلى تفتيت العراق إلى دويلات ويكفر الناس ويفجر الصراعات الطائفية ... المسلحون التكفيريون يقتلون العشرات من مقاتلي المقاومة العراقية لرفضهم المبايعة على تفتيت العراق ولحمته ... المقاومة العراقية تنتقد التنظيمات المتشددة الوافدة لقيامها بعمليات تفجير تتعدى آثارها الهدف المقصود في مواجهة الاحتلال وتصيب المدنيين وتزرع الفتنة ... ».
- في توقيت نموذجي للعائلة، الساعة 7.30، ومساء يوم 17/2/2007 وجه مشعان الجبوري كلمة مصورة لـ « القاعدة» حمل فيها بشدة على التنظيم، وخاطب أبي عمر البغدادي منتقدا ما أسماه عمليات قتل نفذتها « القاعدة» ضد المدنيين من الشيعة والسنة على السواء، وضد بعض الوجهاء وشيوخ العشائر والوطنيين والمقاومين والمجاهدين من الجماعات الأخرى بحجة أن القتلى عملاء أو لأنهم لم يبايعوا على إعلان « الدولة»، بالإضافة إلى ذكره للكثير من أسماء الضحايا وظروف مقتلهم. ولا شك أنها المرة الأولى التي تتعرض فيها « القاعدة» لهجوم تلفزي مصور ومركز على امتداد 32 دقيقة وأمام عشرات الملايين من المشاهدين. ولا شك أيضا أن مثل هذا الهجوم الفريد من نوعه في الجرأة على « القاعدة» قد خلف ضررا فادحا في سمعة « القاعدة» التي لا تمتلك أية وسيلة إعلامية للرد بنفس المستوى على ما تعرضت له، خاصة وأن العامة من الناس ألفت قناة « الزوراء» في بثها لعمليات المجاهدين، لكنها الآن تستمع وتشاهد الجبوري دون أن يكون لـ « القاعدة» فرصة عادلة للرد على خطاب الجبوري، ناهيك عن أن الأفلام المصورة لن تحقق الغرض حين تواجه قناة تلفزيونية.
- وفي نفس اليوم (17/2/2007) انفردت مجلة « العصر» الإلكترونية، السرورية المنشأ والمقصد، بنشر ما قالت أنها وثائق سرية من جهاز المخابرات العراقية تمكن مراسلها من الحصول عليها من مصادر سنية وصفتها بـ « الموثوقة» تكشف عن علاقة « القاعدة» بإيران. وقبل هذا وذاك نشرت المجلة بضعة مقالات تناولت « القاعدة» بالنقد الشديد دون أن تمس أية جماعة أخرى مما حدا بمناصري « القاعدة» إلى شن هجوم لاذع على المجلة واتهامها بالانضمام إلى الحملة المناهضة لها. أما موقع « المختصر» فقد انحاز بالكامل إلى الحملة المناهضة.
- في 22/2/2007 تناقلت بعض المواقع الإلكترونية « الملف نت» بيانا باسم « مجلس شورى المجاهدين» ( = تنظيم « القاعدة» في العراق) يتضمن تحذيرات من التعامل مع مشعان الجبوري والكاتب العراقي سمير عبيد باعتبارهما يحرضان على الفرقة بين الأخوة المجاهدين، ويحمل عليهما بشدة بالغة واصفا إياهما بالعمالة والحثالات. ونسبت بعض الصحف البيان إلى شبكة البراق الإسلامية. غير أن المنتديات السلفية شككت بالبيان ونسبته إلى القاعدة، وحتى باللغة التي صيغ بها.
- في 24/2/2007 انفجرت شاحنة مفخخة في مسجد الصحابة في حي العمال وسط مدينة الحبّانية غرب الفلوجة. وأسفر الهجوم عن مقتل قرابة 45 شخصا من المصلين والمارة فضلا عن عشرات الجرحى كلهم من السنة، وأذاع موقع « المختصر» أن سبب الهجوم هو انتقاد شيخ المسجد لتنظيم « القاعدة»!! غير أن الملفت في خبر الموقع أنه خصص، على طوله، لانتقاد القاعدة واستعمال نفس اللغة التي يهاجم بها الجبوري « القاعدة». وغني عن البيان أن الموقع ضليع في الحملة على « القاعدة»حتى النخاع.
- في 9/3/2007 انشقاق « كتائب العشرين» والإعلان عن حركة المقاومة الإسلامية « حماس العراق». وهو الانشقاق الذي يتحمل مسؤوليته « الحزب الإسلامي» بزعامة طارق الهاشمي.
- في 4/4/2007 رد الشيخ حامد العلي على سؤال: « هل من لا يبايع ( دولة العراق الإسلامية ) عصاة؟! وهل هو واجب العصر ؟! » بفتوى قال فيها: « ننصح بالرجوع عن إعلان ما سمّى الدولة الإسلامية، وأن يكونوا ـ كما كانوا سابقا ـ فصيـلا جهاديـا يقف مع بقية الفصائل تحت راية الجهـاد».
- وفي اليوم التالي (4/4/2007) أصدر « الجيش الإسلامي»، بالتزامن مع فتوى الشيخ حامد العلي، بيانه الذي دشن فيه رسميا إعلان الحرب على « دولة العراق الإسلامية». وبرر بيانه بأن العلماء سكتوا!!! وفي ثناياه قال البيان: « لم نسارع في رد ما اتهمنا به انتظارا لرد العلماء الربانيين ... ولكن لم يتكلم أئمتنا فكان لابد من بيان بعض الأمور»، وفي موضع آخر من البيان طالب: « علماء الأمة بأن يقوموا بواجبهم الشرعي لتدارك المشروع الجهادي في العراق ... وعدم السكوت»! في حين تبرأ 13 عالما ببيان بتاريخ 18 نيسان / أفريل 2007 حمل اسم « نداء للمجاهدين في العراق»، من الفتنة، ودعوا كافة الجماعات الجهادية إلى تجنبها وإصلاح ذات البين قبل أن تذهب ريح القوم وتسفك الدماء ويفشل المشروع الجهادي، وهم ممن سبق والتقاهم قائد « الجيش الإسلامي» في استراحة الشيخ ناصر العمر، ولم يسكتوا بل رفضوا إعطاءه فتوى تجيز « إدانة القاعدة ومقاتلتها».
جريمة تاريخية وشرعية بكل المقاييس تصدرها نخبة ممن تباهوا بمن هو صاحب السبق في الخيانة والعمالة والقتل أمثال أبو العبد وأبو عزام التميمي وعبد الستار أبو ريشة وطارق الهاشمي وعبد الغفور السامرائي وحميد الهايس وغيرهم وأمثالهم ممن برعوا في الكذب ومردوا على النفاق والتدليس، ودمروا المشروع الجهادي كي تحظى الولايات المتحدة بـ « عودة مشرفة» !
ثانيا: خطاب « التمدد»
في مساء يوم 9/4/2013، وبينما كنت على وشك أن أعد حقيبتي للسفر باتجاه مصر، خبرت بكلمة للشيخ أبو بكر البغدادي، أمير « دولة العراق الإسلامية»، بعنوان: « وبشّر المؤمنين»، صدرت عن مؤسسة « الفرقان»، وتحمل صفة عاجل!!! فتعجبت من البشرى والصفة، لاسيما وأنه لم يسبق لـ « الفرقان» أن خاطبت أية جهة كانت بهذه الصفة. لا أنكر أنني كنت أتلهف لمعرفة سر العجلة خاصة وأنني كـ « مراقب» للتيار الجهادي العالمي، منذ سنوات، غدوت أبعد ما أكون عن الدهشة أو الوقوع ضحية المفاجآت. فما كان مني إلا أن أقطع مسافة زمنية بمقدار 21.30 دقيقة حتى يتبدد العجب ويزول ما بدا قلقا غير معهود. فبدأت أستمع إلى الكلمة، وعاينت فيها حديثا عن الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى، وأنه (1) لا يفكر بهذا الارتقاء والتسامي إلا من آتاه الله تعالى بُعدًا في النظر وإحاطة بالمصالح العامة، وبما تنتظره الأمة من المجاهدين، و (2) إلا من رزقه الله تعالى العلم بالمواطن التي تغيظ الكفار والمرتدين، وأنه (3) يحتاج إلى أن نتغلب على عواطفنا وعقولنا؛ لأنه مطلب شرعيّ، والشرع مقدم على كليهما، وأنه (4) يحتاج إلى أسماء جديدة تحمل عبق الإسلام في توسعه، وفي امتداده وفي انتشاره.
بقيت أستمع إلى الكلمة بنوع من القلق والريبة خاصة وهو يستذكر مسارات « التوحيد والجهاد» التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي وصولا إلى إعلان « دولة العراق الإسلامية»!!! ولم أتوقف أبدا عند كشف البغدادي عن حقيقة « جبهة النصرة» باعتبارها امتدادا لـ « دولة العراق الإسلامية»، مع أنني تعجبت من المصلحة في ذلك!!!
لكني توقفت مندهشا عند الفقرة التالية: « عقدنا العزم بعد استخارة الله تعالى، واستشارة من نثق بدينهم وحكمتهم: على المضي بمسيرة الرقي بالجماعة»، وأكثر عند عبارة: « متجاوزين كل ما سيقال»؛ وبكثير من الدهشة لدى سماعي فقرة الإعلان عن « الدولة»: « نعلن متوكلين على الله: إلغاء اسم دولة العراق الإسلامية، وإلغاء اسم جبهة النصرة، وجمعهم تحت اسم واحد: (الدولة الإسلامية في العراق والشام) »، وأكثر في هذه الفقرة: « وبهذا الإعلان يتوارى بإذن الله تعالى ويختفي اسم دولة العراق الإسلامية واسم جبهة النصرة عن التداول في تعاملاتنا، ويكونان جزءًا من تاريخنا الجهادي المبارك كسابقاتهما»، وأخيرا فقرة: « وإننا في ذات الوقت: نمد أيدينا واسعة، ونفتح أحضاننا وقلوبنا للفصائل المجاهدة في سبيل الله تعالى، وللعشائر الأبية في أرض الشام الحبيبة، على أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تحكم العباد والبلاد بأحكام الله تعالى، دون أن يكون لغير الله تعالى أي نصيب في الحكم».
كانت أول جملة نطقتها وأنا أستمع إلى الفقرات الأخيرة هي: « هل ثمة أحد ما يصوب مسدسا فوق رأس البغدادي ليتكلم بهذا الكلام؟ » وتتالت التساؤلات العفوية الواحد تلو الآخر من نوع:
• حتى لو كان البغدادي معتقلا؛ وثمة من يصوب مسدسا فوق رأسه فلا يحق له أن يدلي بمثل هذه التصريحات، وحتى لو مزقوه ومشطوه بأمشاط الحديد فليس له الحق إلا أن يصبر ويحتسب ولا ينطق بمثل ما نطق.
• ما هي المصلحة الشرعية التي ستجنيها الأمة من هكذا إعلان يمس جماعة صارت: (1) أهزوجة للثورة السورية والمجاهدين والأنصار في العالم، و (2) جرأت الأمة على الجهاد دون وجل، و (3) وطهرت المشروع الجهادي في العالم من حملات التشويه والتحريض، و (4) قدمت نموذجا إسلاميا جهاديا مشرقا يتغنى به القاصي والداني إلا من اتخذ إلهه هواه وسخر نفسه مطية للخصوم والأعداء الذين لم يتجرؤوا على المساس بـ » إلا ولاقوا الإدانة والاستنكار، و (5) دفعت شعبا ثائرا برمته أن يتحدى الولايات المتحدة التي وضعت الجبهة على قائمتها للإرهاب؛ ويخرج بجمعة أسماها « جبهة النصرة تمثلني»، رغم محاولات تزوير التصويت التي اعتاد عليها القائمون على صفحات الثورة السورية؟
• ما هو حال أمير الجبهة؟ وما هي صفته بعد الإعلان؟ هل عاد جنديا أم سيبقى أميرا أم اعتقل أم قتل أم ماذا؟ وما هو حال الجنود الذين يكونون على الثغور وهم يستمعون لمثل هذا الخطاب ويتساءلون: ما الذي يجري؟ أو من هو الأمير الجديد؟ أو لماذا حصل ذلك دون أن نعلم؟ أو ماذا سنفعل إذا انقسمنا؟ أو ماذا حل بالأمير؟
• كيف سيكون رد فعل التيار الجهادي وساحاته في العالم وأنصاره وكذا العلماء والمثقفين والمفكرين والمشايخ والدعاة والمراقبين والصحفيين والكتاب ممن تابعوا نشاط التيار في العالم ودفعوا أثمانا باهظة لقاء تغطية فعالياته القتالية والدعوية في شتى أصقاع الأرض؟
• كيف سيكون حال الجهاد في الشام بعد هذا الخطاب؟ وهل هذا ما ينقص الجهاد في الشام! فرقة وتمزق والأعداء على الأبواب ومن كل جانب؟ وما هي ردود فعل القوى الجهادية والمقاتلة الأخرى؟ بل كيف ستكون ردود الفعل لدى الداعمين والناصرين للجهاد الشامي من الخارج وقد كشف الخطاب عن علاقة الجبهة بـ « الدولة» .. وهو الكشف الذي سيلزم كافة المناصرين والداعمين والمدافعين عن الجهاد الشامي بتوخي الحذر خشية الملاحقات الأمنية والقانونية؟
• كيف يحصل مثل هذا الأمر الذي من شأنه إشغال الأمة في الوقت الذي تشهد فيه الساحة العراقية غليانا شعبيا ضد الطائفية هي أحوج ما تكون فيه إلى التمتع بأقصى درجات الحكمة والمسؤولية وتركيز الجهد باتجاه الحشد ضد نظام بات نسخة طبق الأصل من النظام النصيري في سوريا؟
سارع الجولاني أمير « جبهة النصرة»، « مكرها» كما قال أبو خالد السوري، إلى الاحتماء بـ « القاعدة» كحكم بين الطرفين فيما يتعلق بقرار البغدادي. وخرج في اليوم التالي (10/4/2013) محاولا، بنظر العامة من الأمة وحتى الخاصة، إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فقال: « نحيط الناس علما أن قيادات الجبهة ومجلس شورتها والعبد الفقير المسؤول العام لجبهة النصرة لم يكونوا على علم بهذا الإعلان سوى ما سمعوه من وسائل الإعلام. فإن كان الخطاب المنسوب حقيقة فإننا لم نُستشر ولم نُستأمر»، وتابع: « وإني لأستجيب إذن لدعوة البغدادي حفظه الله بالارتقاء من الأدنى إلى الأعلى وأقول هذه بيعة من أبناء جبهة النصرة ومسؤولهم العام نجددها لشيخ الجهاد الشيخ أيمن الظواهري حفظه الله فإننا نبايع على السمع والطاعة في المنشط والمكره والهجرة والجهاد وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن نرى كفرا بواحا لنا فيه من الله برهان ... وستبقى راية الجبهة كما هي لا يُغير فيها شيء رغم اعتزازنا براية الدولة ومن حملها ومن ضحى وبذل دمه من إخواننا تحت لواءها».
بعد شهرين بالضبط من إعلان البغدادي رد الظواهري على رسالة الجولاني برسالة مكتوبة يعلن فيها تخطئة الأميرين، مشيرا إلى أن: « ما حدث من كلا الطرفين لم نستأمر فيه ولم نستشر، ولم نخطر به، وللأسف سمعناه من الإعلام كغيرنا». وفي فضه للخلاف قال:
• « أخطأ الشيخ أبو بكر البغدادي الحسيني بإعلانه دولة العراق والشام الإسلامية دون أن يستأمرنا أو يستشيرنا، بل ودون إخطارنا؛
• أخطأ الشيخ أبو محمد الجولاني بإعلانه رفض دولة العراق والشام الإسلامية دون أن يستأمرنا أو يستشيرنا، بل ودون إخطارنا».
• « تلغى دولة الشام والعراق الإسلامية، ويستمر العمل باسم دولة العراق الإسلامية». وولايتها المكانية العراق.
• « جبهة النصرة لأهل الشام فرع مستقل لجماعة قاعدة الجهاد يتبع القيادة العامة». وولايتها الشام.
• وفي آخر الرسالة يعلن الظواهري عن انتداب أبو خالد السوري كممثل للقاعدة يرجع له « الفصل في أي خلاف في تفسير هذا الحكم»، ويكون له صلاحية « تشكيل محكمة شرعية في حالة وقوع أي تعد من أحد الطرفين على الآخر».
أنكرت « الدولة» بلسان البغدادي وأبي محمد العدناني « فذرهم وما يفترون – 19/6/ 2013» رسالة الظواهري إلا من توصيفها بـ « المنسوبة» إليه!!! وفي خطاب له بعنوان: « باقية في العراق والشام – 14/6/2013 « رفض البغدادي قبول الحكم بحجة اشتمال الرسالة على مخالفات منهجية وشرعية مشددا على عدم تراجعه عن التمدد باتجاه الشام:
} الدَولةَ الإسلامية في العِراق والشام بـاقـيـة ما دامَ فينا عِرقٌ يَنبِض أو عَينٌ تَطرُف، بـاقـيـة ولَن نُساوم عَليها أو نَتنازَل عَنها حَتى يُظهِرَها الله تَعالى أو نَهلِك دونها ... لَن تَنحَسِر عَن بُقعَةٍ امتَدَّت إلَيها ولَن تَنكَمِشَ ... والحُدود التي رَسَمتها الأيادي الخَبيثة بَين بِلاد الإسلام ... قَد تَجاوَزناها، ونَحنُ عامِلون بِإذن الله تَعالى عَلى إزالتِها ولَن يَتوقَف هذا الزَحفُ المبارك حَتى نَدُقَ آخِرَ مِسمارٍ في نَعشِ مؤامرة سايكس وبيكو.
الرِسالةُ التي نُسِبَت إلى الشَيخ أيـمَـن الظواهري حَفِظهُ الله، فإن لَنا عَليها مؤاخَذاتٍ شَرعية ومَنهَجيةٍ عَديدة، وقَد خُيّرَ العَبدُ الفَقير بَينَ أمرِ رَبه المـُستَفيض، وبينَ الأمر المـُخالِف لأمر الله تَعالى، وبَعد مُشاورة مَجلِس شُورى الدَولة الإسلامية في العِراق والشام مِن مُهاجِرين وأنصار، ومِن ثَمّ إحالة الأمر إلى الهَيئة الشَرعية اخترتُ أمر رَبي عَلى الأمر المخالِف لهُ في الرِسالة قال تعالى: « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا»{».
إرباك ما بعده إرباك أصاب الجهاد الشامي برمته جراء خطاب البغدادي، وخسارات فادحة تكبدتها الأمة حين انقضّت دول « المركز» على « خطأ» الجولاني، واستصدرت قرارا من مجلس الأمن في 30/5/2013 بوضع « جبهة النصرة» على القائمة الدولية للإرهاب. وانحسار في مقارعة النظام، واستياء شديد إلى حد الغضب في كافة أرجاء العالم الإسلامي، وشعور بالخذلان والخزي مما بدا شماتة من القوى اللبرالية والعلمانية واليسارية التي طالما اتُّهمت من قبل الإسلاميين والجهاديين على السواء بالتآمر على الجهاد والمجاهدين وكره الإسلام ومحاربته فإذا بالطعنة تأتي من الداخل!!!
كانت التساؤلات التي طرحناها بدايةً، وعبّر عنها البغدادي بصيغة « كل ما سيقال»، هي ذات التساؤلات التي شغلت عقول الكثيرين من المتابعين والمعنيين بالشأن الجهادي العالمي!!! أما لماذا؟ فلأن الجميع سمع الخبر كما سمعه الأعمى والأصم وكذا الذين يعلمون والذين لا يعلمون والذين يستوون والذين لا يستوون. إذ لا وجود لأية مقدمات أو تسريبات أو إشارات أو استشارات من قريب أو من بعيد إلا، بحسب البغدادي، ممن: « نثق بدينهم وحكمتهم»!!! فمن هم أصحاب الحظوة هؤلاء إذا كان ذوو الشأن وعِلِّية القوم أنفسهم « لم يستأمروا أو يستشاروا أو يُخطَروا» !!!؟ سؤال قد يبدو استنكاريا، للوهلة الأولى، لكنه بقليل من التأمل يكشف عن مشكلات عميقة بين « القاعدة« و « دولة العراق الإسلامية» تسبق الحدث برمته، وتذكر بتصريحات لآدم يحيى غدن الملقب بعزام الأمريكي حين طالب بطرد « دولة العراق الإسلامية» من رحاب « القاعدة». لذا لم تنجح الوساطات التي توالت على الجانبين (« النصرة» و « الدولة») في تحقيق أية اختراقات موضوعية تنهي حالة الانقسام والتوتر بينهما.
لم يكن في خطابي البغدادي والجولاني ما يمس الآخر ظاهريا بقدر ما بدا الواقع الميداني والإعلامي مشحونا بين نشوة أتباع « الدولة» الذين بدا لهم كما لو أن الخلافة صارت قاب قوسين أو أدنى، ومرارة أتباع « النصرة» الذين تعرضوا لاستنزاف خطير في المقاتلين الذين بايعوا « الدولة» من جهة وكذا في خسارة ما حققته « النصرة» من مغانم عسكرية في السلاح والمنشآت والمقرات والممتلكات التي سيطرت عليها وجُرِّدت منها أو آلت إلى « الدولة» بحكم الواقع الجديد، فضلا عن الشعور بالخسارة الأهم فيما بدا مشروعا ناجحا محليا، وعلى مستوى الأمة، يجري هدمه دون مبرر إلا مما وصفه البعض بـ « حظوظ دنيا زائلة» أو تأصيلات شرعية وقراءات سياسية خاطئة.
وما أن أعادت « النصرة» بطريقة مذهلة بناء ذاتها من الصفر تقريبا حتى وجدت نفسها ثانية موضع اتهامات من قبل أنصار « الدولة» وقادتها وأتباعها بالخيانة والغدر ونكث البيعة والانحرافات المنهجية. ولعل أطرف ما في الأمر أنه رغم الكثير من الاتهامات الموجهة ضد « النصرة» إلا أن المطالب بعودتها إلى « الأصل» مستمرة دون توقف، بل أن صيغة « عودة الفرع إلى الأصل» هو الحل الوحيد الذي تتيحه « الدولة» أمامها!!! فما هي حقيقة تأسيس هذا الفرع؟
إذا تجنبنا التخمينات التي انتشرت هنا وهناك، وكذا لغة الأنصار والأتباع من الجانبين فضلا عن الخصوم والأعداء، واعتمدنا فقط على مصادر الطرفين فلن نجد لدى « الدولة» أية تفصيلات غير تلك التي أشار إليها البغدادي في خطاب الإعلان عن « الدولة». ففي الخطاب « وبشر المؤمنين» قال البغدادي أننا: « (1) انتدبنا الجولاني، وهو (2) أحد جنودنا، و (3) معه مجموعة من أبنائنا، و (4) دفعنا بهم من العراق إلى الشام، على أن يلتقوا بخلايانا في الشام، و (5) وضعنا لهم الخطط، و (6) رسمنا لهم سياسة العمل، و (7) رفدناهم بما في بيت المال مناصفة في كل شهر، و (8) أمددناهم بالرجال، ... وامتد نفوذ الدولة الإسلامية إلى الشام، ولم نعلن عنها لأسباب أمنية، وحتى يرى الناس حقيقة الدولة بعيدًا عن تشويه الإعلام وتزويره وتزييفه، وقد آن الأوان لنعلن أمام أهل الشام والعالم بأسره: أن جبهة النصرة ما هي إلا امتداد لدولة العراق الإسلامية وجزء منها».
في المقابل يخاطب الجولاني نفسه و « الناس» و « قيادات الجبهة» و « مجلس شورتها» في رده على خطاب البغدادي بما يوحي بأن « جبهة النصرة» لم تكن في واقع الأمر إلا مشروعا قدمه للبغدادي بعيد انطلاقة الثورة السورية ببضعة شهور، وليس مشروعا لـ « الدولة» كما ألمح البغدادي، فيقول :
« بعدما كُشفت بعض الأوراق أننا واكبنا جهاد العراق مذ مبدئه إلى حين عودتنا بعد الثورة السورية مع ما حصل لنا من انقطاع قدري ( لعله يقصد فترة السجن) إلا أننا قد اطلعنا على أغلب تفاصيل الأحداث الجسام التي مرت على مسيرة الجهاد في العراق واستخلصنا من تجربتنا هناك ما سرّ قلوب المؤمنين بأرض الشام تحت راية جبهة النصرة ... وما وددت الخروج من العراق قبل أن أرى رايات الإسلام تُرفع خفاقة عالية على أرض الرافدين لكن سرعة الأحداث بالشام حالت بيننا وبين ما نبتغي».
ويضيف:
« (1) شرفني الله عز وجل بالتعرف على الشيخ البغدادي ذلك الشيخ الجليل الذي وفى لأهل الشام حقهم ورد الدين مضاعفا و (2) وافق على مشروع قد طرحناه إليه لنصرة أهلنا المستضعفين بأرض الشام .. ثم (3) أردفنا بشطر مال الدولة، ثم (4) وضع كامل ثقته بالعبد الفقير و (5) خوّله بوضع السياسة، و (6) الخطة و (7) أردفه ببعض الإخوة وعلى قلتهم إلا أن الله عز وجل قد بارك فيهم وبجمعهم ... ».
ثالثا: وثيقة التأسيس
لا ريب أنه في كلا الخطابين ثمة جنوح نحو العموميات لا تتسع لها الخطابات. لكن النصين الواردين أعلاه يكادان يقفان على طرفي نقيض لجهة المبادرة بالفعل ورسم السياسات والخطط وما إلى ذلك. وبدلا من أن توضح « الدولة» هذا التناقض بادرت « النصرة»، بعيد اندلاع الاقتتال، وفيما يبدو ردا على صيغة « الفرع والأصل»، بنشر وثيقة رسمية، أقل من عشر صفحات، بعنوان: « الرد على شبهة أن الدولة هي من أسست النصرة»، كتبها « أحد المسؤولين» قبل خمسة شهور، ونشرها بتاريخ 25/2/2014، وحملها تفاصيل غير مسبوقة عن التأسيس والخلاف. وما تضمنته الوثيقة وردت غالبيته في خطاب عضو مجلس الشورى واللجنة الشرعية العامة في جبهة « النصرة»، أبي عبد الله الشامي الموسوم بـ: « لتبيننه للناس ولا تكتمونه – 4/3/2014». ثم جرى التأكيد على بعضها فيما عرف بخطاب الرد على دعوة العدناني لمباهلة الشامي في كلمته: « ثمَّ نبتهلْ فنجعلْ لعنةَ اللهِ على الكاذبينَ – 7/3/2014».
أما الوثيقة فتبدأ بطرح جدلية التأسيس بالقول: « إن الناظر في تاريخ تأسيس الجبهة يجد أن مقولة: الدولة هي من أسس الجبهة- بذا الإطلاق -، مقولة غير دقيقة». وتنتهي إلى القول بأن خطوة البغدادي انتهت إلى شق الصف الجهادي في الشام. أما في التفاصيل فتؤكد الوثيقة على أن:
أولا:
إن الجولاني هو من كتب « التقرير الذي يتضمن العمل في الشام» ورفعه إلى البغدادي الذي « علّق» عليه بالقول: « أوافق على كل حرفٍ كُتب في هذا التقرير، إن صاحب هذا التقرير لم يترك في تقريره مجالا لأن يُنقَد». وأن الجولاني طلب من البغدادي: « أن تقوم الدولة بتبني الجبهة من البداية، فرفض خشية فشل الجبهة، حتى لا يعود الفشل على الدولة».
ثانيا:
وأن الجولاني هو: « صاحب المشروع من ألفه إلى يائه»، وأنه هو من: « رسم مشروعًا كاملا للشام، وعرضه ... بكل خططه وأهدافه القريبة والبعيدة وتفاصيله على دولة العراق، وتمت الموافقة عليه، فأُرسل من العراق إلى الشام ليسير في هذا المشروع ... ورفدته الدولة ببعض المال وعددٍ قليلٍ من الرجال بينهم اثنان يُعدَّان من الكوادر». وفي مقابلته مع قناة « الجزيرة – 19/12/2013» ذكر الجولاني أنه: « تمت الموافقة بعد عرض خطة تقريبا شبه متكاملة، وهي مختصرة في نقاط محددة، ثم بعد ذلك قمنا مع بعض رفاقنا وخاصة الشاميين الذين بقوا هناك ولا يتجاوز عددهم تقريبا 7 أو 8 رجال أتينا إلى هذه الأرض في شهر رمضان الموافق للشهر الثامن الميلادي من عام 2011، وكان بعد بدء الثورة تقريبا بخمسة أشهر».
ثالثا:
وأن المشروع قام على أساس: « تلافي أخطاء العراق، وألا يُنقل واقع العراق إلى الشام، وأن لساحة الشام خصوصيتها التي تميِّزها عن ساحة العراق، وأن نبدأ من المائة التي وصلنا إليها في العراق وليس من الصفر الذي بدأه الشيخ أبو مصعب الزرقاوي رحمه الله، وكذلك مما تم إقراره أن للشيخ الجولاني صلاحيات واسعة وتخويلا عاما في الشام».
رابعا:
إن تأسيس « جبهة النصرة» هو ثمرة جهد مضني اضطلع به الجولاني، « ومن معه في الشام- من مهاجرين وأنصار بعددهم القليل في البداية»، ومساعده الشرعي العام، و: « لماّ تطوّر العمل ( ما بعد التأسيس) وبرز نجم الجبهة أُرسلت ( دولة العراق الإسلامية) بعض الشخصيات».
خامسا:
و « حتى نكون منصفين»، والكلام لكاتب الوثيقة، « إن الجبهة هي من أسست نفسها ورفدتها جماعة الدولة ببعض المال وقليل من الرجال ) حوالي ٧، اثنان منهم فقط كوادر(، وأما السلاح فمن أموال الجبهة».
سادسا:
وفيما يبدو ردا مباشرا على ما ورد في خطاب البغدادي من أنه: « أرسل الجولاني وزوّده بالخطط ورفده بالمال والرجال وربطه بخلاياه كما ذكر»، تقول الوثيقة:
• « إن الشيخ البغدادي يعلم يقينًا أن العمل بالشام بالنسبة له ولغيره من قيادات الدولة كان حلمًا ولم يكن مشروعًا، وأن من حوّل الحلم إلى مشروع له خططه ورؤيته وأبعاده وأهدافه و ..و ..هو الشيخ الجولاني». « حلم» يقول الجولاني، في مقابلته مع قناة « الجزيرة»، أنه: « كان في أذهان قيادة دولة العراق الإسلامية». لكنها لم تكن قادرة على دخول الشام، ذلك أن ( والكلام هنا للجولاني): « كل فكرة يجب أن تحمل من المقومات وتصل إلى درجة الواقعية، الشام لم تكن مهيأة لدخولها لولا الثورة السورية، ... هذه الثورة دفعت أو أزالت الكثير من العوائق التي مهدت لنا الطريق في الدخول والوصول إلى هذه الأرض المباركة».
• « ويعلم ... أيضًا أن المال الذي بُعث لا يكفي لتأسيس جماعةٍ على المستوى الذي رأيناه فيما بعد في جبهة النصرة، بل لا يكفي لمحافظةٍ واحدة؛
• وإن الرجال الذين جاءوا مع الشيخ إلى الشام منهم من أُرسل تخلصًا منه في العراق، ومنهم من كان يود الهروب من العراق، ومنهم من اعتذر عن المجيء حيث إن زوجه لم توافق، ومنهم من دخل الشام وبقي في المنطقة الحدودية حينًا ثم رجع؛
• ويعلم ... يقينًا أن الخلايا التي تحدَّث عنها في خطابه غير موجودة، اللهم إلا ثلاثة أشخاص كانوا قد أرسلوا قبل ذلك، ولما التقاهم الشيخ الجولاني في الشام سألهم عن عملهم في الشام، فقال قائلهم: صار لنا سنة ونصف نستطلع منطقة السومرية، فقال لهم الشيخ: هل معكم من سلاح؟ فقالوا: لا، ولا حتى قطعة مسدس واحدة، فقال: ومن أين تأتون بالمال، فقال: أحدنا يعمل موظفًا في أحد المعامل، والثاني يعمل في إحدى شركات الموبايل - سيرياتل أو إم تي إن -ليؤمنوا مصروفهم الشخصي. أي: لا مال لديهم ولا سلاح؛
• ويعلم ... يقينًا كذلك أنه لما أرسل الجولاني إلى الشام لم يزوّده لا بالمشاريع ولا بالخطط، وأن صاحب الخطة والمشروع بالكامل هو الشيخ الجولاني»؛
سابعا:
أما فيما يتعلق في البيعة فإن « جبهة النصرة» تأسست على أساس أن « دولة العراق الإسلامية» هي « قاعدة، فـ: « الدولة تُعتبر فرعًا لتنظيم القاعدة على أرض العراق، فهي تابعة للتنظيم العالمي ومركزه الأساس في أفغانستان وأميره الدكتور أيمن، ويشرف المركز على الأفرع. وعليه؛ فتبعية الجبهة للدولة ما كانت إلا لعلم الجبهة بأن الدولة جزء وفرع من التنظيم، وقد كانت الدولة تشرف على الجبهة كما تشرف خراسان على الدولة». وأنه: « لولا أن جبهة النصرة قاعدة لما بايعناها، ولولا أن دولة العراق الإسلامية فرع لتنظيم القاعدة على أرض العراق لما تمت مبايعتها ( و) لما أعطيناها صفقة يميننا وثمرة فؤادنا»، وأن البغدادي: « أكد ذلك بكلام لا يحتمل التأويل»؛ إذ قال: « إنه كان في عنقه بيعة للشيخ أسامة، ولما قُتل الشيخ تقبله الله بعث ... ببريد يجدد فيه البيعة للدكتور أيمن حفظه الله. وهو في كل جلساته يكرر أن الشيخ أيمن أميرنا وله علينا السمع والطاعة، وأن الدولة ما هي إلا فرع للتنظيم، وكان كثيرًا ما يجيبنا على بعض التساؤلات والمقترحات بأن المشايخ في خراسان لا يريدون ذلك». وتضيف الوثيقة: « كنا سابقًا سألنا الشيخ البغدادي السؤال التالي :هل الارتباط بخراسان يعدّ خروجًا عليكم؟ فأجاب بالحرف: الارتباط بخراسان ليس خروجا، وأنا لا مانع عندي من ارتباط الجبهة بخراسان مباشرة. وقال أيضًا: إذا ارتبطت الجبهة بخراسان أي بالتنظيم الأم مباشرة فهو ثقل يزول عن كاهلي أو كلمة نحوها» وفي المبدأ والمنتهى فإن: « علاقة الدولة بالجبهة هي علاقة إشراف».
ثامنا:
لكن المشكلات بدأت لما ظهر أن العلاقة تتجاوز « الإشراف» إلى « التدخل» و: « بشكل غير مناسب لظروف الساحة». و: « بدأ استنساخ التجربة بقولهم: (1) إن ساحة الشام نسخة طبق الأصل من ساحة العراق، ولن تصلح إلا بتطبيق النموذج العراقي، و (2) إن الآليات التي استخدمت في العراق لا بد أن تُستخدم هنا في الشام». و: « لما كثرت تدخلات الدولة في الجبهة بشكلٍ يعود بالضرر الكبير على الساحة قرر الإخوة في الجبهة كتابة رسالةٍ للدكتور أيمن حفظه الله يبيّنون فيها الحال، وهذا ما جرى فعلا». فرد البغدادي بالقول: « إذا كنتم تريدون كتابة شيء لخراسان فاكتبوا وأنا أرسله لكم، وخرجنا من المجلس وليس في نيتنا كتابة شيء، لكن لما وجدنا أن الأمر لم يتغير نحو الأفضل قررنا كتابة الرسالة».
تاسعا:
انفجرت المشكلة بإعلان « الدولة»، وقام الجولاني بإحالة المشكلة إلى خراسان للبت في الأمر. وتتابع الوثيقة القول: « حين علم الشيخ البغدادي بعزمنا على كتابة الرسالة أو كتابتنا للرسالة، بدأ يخطط هو وبعض من معه للإسراع بإعلان دولة مشتركة بين الشام والعراق، وهذا ما كان بعد أيام دون علم أحدٍ من جبهة النصرة سوى العدناني». وبدا واضحا، بحسب الوثيقة، أن: « المشروع الذي كان قبل المشكلة هو مشروع لا يمتّ إلى الدولة بصلة». ورأى مجلس شورى الجبهة وقياداتها أن: « حل المشكلة بأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل دخول الشيخ البغدادي إلى الشام بأن لا تتغير السياسة العامة التي سارت عليها الجبهة طيلة عام ونصف». إلا أن البغدادي رد « أمام أكثر من شخص» بالقول: « أنا أعلم أن إعلان الدولة في هذا الوقت خطأ، ولكن قمت به لأقطع الطريق على جبهة النصرة حتى لا تنفصل أو حتى لا تنشق على حد قوله. ولما سئل ( والكلام لكاتب الوثيقة) هو ونائبه؛ ما هو موقفكم من رد الدكتور أيمن؟ قال الشيخ البغدادي: إذا جاء الرد لصالح جبهة النصرة فسأقبِّل رؤوس أهل الشام، وأحمل "شوالاتي- "أي أمتعتي -وأعود إلى العراق. أما نائبه فقالها في كل مجلس كان يجلسه ومنها مجلسه مع الشيخ الجولاني. أعاهدك أنه إذا جاء الرد للجبهة، فكلنا جبهة .أما العدناني فأقسم على التزامه بالرد حين مجيئه».
عاشرا:
قدمت الوثيقة بعض الدفوعات على قرار البغدادي، في صيغة أسئلة ومقاربات، حول ما أثير من شبهات تتهم الجولاني بنكثه للبيعة منها:
• « إن إعلان الدولة الإسلامية إنما يكون لتطبيق الشريعة، أما إعلان دولةٍ لقطع الطريق على جبهة النصرة ... فلا أدري ما مستنده شرعًا»! ومع أنه: يعلم قبل أن يخطو تلك الخطوة أنها خطأ»، إلا أنه يرتكب « مخالفة» وليس خطأ فحسب حين: « يبرر فعله أنه اضطر لهذا لقطع الطريق على الجبهة». وفي المحصلة: « قطع للطريق على الدكتور أيمن نفسه؛ أي بممارسة سياسة الأمر الواقع عليه».
• وجهت الوثيقة سؤالا لـ « الإخوة في الدولة: ما رأيكم لو أن الشيخ أسامة وقتها جاء إلى العراق وبدأ ينازع الشيخ الزرقاوي الأمر بحجة أنه هو جنديُّه وتابعٌ له، وفي عنقه بيعة له، وهو – أي الزرقاوي -إنما تعلّم واكتسب الخبرة في أفغانستان»؟! كما هو حال الجولاني، « بل ما رأيكم لو أن الشيخ أسامة بعث بجماعةٍ من أفغانستان وقال لهم: اذهبوا إلى العراق وابدؤوا بتشكيل جماعةٍ هناك ولتأخذوا البيعات باسمي»!!
• هب أن الدولة من أسس الجبهة؛ فإن الجبهة إنما أُسست لتكون جماعة جهادية تجاهد لإعلاء كلمة الله وللوقوف في وجه أعداء الله والدفاع عن المستضعفين، وليس من أجل أن تكون تابعة للاسم الفلاني أو العلاّني. فهل حادت الجبهة عن غاية تأسيسها في جهاد أعداء الله والدفاع عن المستضعفين، وهل هذا هو وقت المنازعة في الشعارات والأسماء».
• وأخيرا خاطبت الوثيقة البغدادي قائلة: « يا شيخ؛ إن الجبهة ليست شركة ولا مؤسسة .. يملكها البغدادي ولا الجولاني .. حتى تلغيها بجرة قلم، ... بل هي ملك للأمة، .. أُسست على جماجم الشهداء وأشلاء الصادقين، وبناء عليه فلا يحق لأحد أن يتبنَّاها إلا بالخير»، .. باعتبارها .. « جماعة جهادية قامت ووفّقها الله مع بقية الفصائل للوقوف في وجه هذا الطغيان النصيري المدعوم بكلٍ من روسيا وإيران وحزب اللات، ومن وراء ذلك من دول الكفر العالمي، فالأولى بك يا شيخ أن تنظر في مصلحة الأمة لا في المصالح الشخصية».
رابعا: التعقيب على الوثيقة
(1) بدت الوثيقة أشبه ما تكون بإبراء للذمة أو مكاشفة يكون القول الفصل فيها للأمة، عامتها وخاصتها، إلا أنها لم تغلق باب المصالحة إذا ما التزمت بالأسس الشرعية التي تراعي المصالح العامة للأمة بعيدا عن المصالح الشخصية أو التنظيمية. لذا فقد حرصت الوثيقة على استعمال لغة معاتبة ذات أدب جم، حفظت بمقتضاها مكانة الشيخ أبو بكر البغدادي وبجلته، والتزمت بمخاطبته بصيغة « شيخنا». ومن الطريف أن ذات اللغة ميزت خطابات البغدادي والجولاني معا، بخلاف العدناني الذي تميز بلغة « استفزازية حادة»، وبخلاف لغة الشرعيين والأنصار من الجانبين.
(2) من الواضح من نص الوثيقة أنها صيغت بحرفية عالية جدا، وقدمت عرضا دقيقا للمشكلة، واستعملت « اليقينيات» في إثبات القول والفعل. كما قدمت دفوعات قوية خاصة فيما يتعلق بـ (1) التأسيس و (2) علاقة الجبهة بـ « الدولة» و (3) مسألة البيعة و (4) خلفية قرار البغدادي. ولا ريب أن هذه العروض، بقطع النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها أو حولها، وبهذه المنهجية، أوقعت « الدولة» بحرج بالغ. فهي لم تترك لها من خيارات إلا الرد عليها أو التزام الصمت.
(3) من الأوضح أن الوثيقة صيغت بـ « لغة تنظيمية» أكثر مما صيغت بـ « لغة شرعية». ولعلها المرة الأولى التي تصدر وثيقة بهذه اللغة، ويتم نشرها على الملأ من قبل جماعات « التيار الجهادي العالمي». ربما لأن موضوع الوثيقة هو خلاف تنظيمي استدعى لغة ملازمة للموضوع المطروح. لكن الحديث تنظيميا عن أخطاء بمستوى مخالفات شرعية تؤشر على أن الجماعات الجهادية بدأت تنزلق من كونها « أطروحة عقدية» إلى « أطروحة أيديولوجية» تحاكي بقية الجماعات الإسلامية التقليدية. وفي مثل هذه الحالة لا يمكن أن تنتهي اللغة الأيديولوجية، في ساحة تعج بالسلاح، إلا بصدامات سياسية أو أمنية أو مسلحة. وهو ما حصل في العراق والصومال وقبلهما في الجزائر واليوم في سوريا.
(4) أخبرت الوثيقة أن البغدادي تلقى تقريرا من الجولاني وليس من « الدولة»، وأن التقرير هو مشروع الجولاني وعقله وخبرته وتجربته ولا يمت بصلة لـ « الدولة» لا من قريب ولا من بعيد. ولعل أميز ما في الوثيقة أن البغدادي هو الذي حذر من مغبة نقل التجربة العراقية إلى الشام!!! هذه الجزئية على وجه التحديد ربما تفسر الأنباء التي تواترت من أكثر من مصدر أن البغدادي لم يكن سببا مباشرا في المشكلة الحاصلة في الشام، بدليل أنه قبِل تحكيم الظواهري وأبدى استعداده للرحيل لولا وجود شخصين في قيادة « الدولة» حالا دون تنفيذ القرار.
(5) فيما يتعلق برسالة الظواهري، وبغض النظر عن الرفض والإصرار على الواقع الجديد، فقد تعاملت معها « الدولة» بسلبية ملفتة للنظر!! وبحسب نص الرسالة فقد جاء في البند الختامي السابع منها ما يلي: « تسلم نسخة من هذا الحكم لكل من: أ- دولة العراق الإسلامية، ب- جبهة النصرة لأهل الشام، ج- فضيلة الشيخ أبي خالد السوري». وهذا يعني أنه ثمة ثلاثة أطراف تسلموا الرسالة. لكن الرسالة التي نشرتها وسائل الإعلام أخفيت من طرف « الدولة»، واضطرت للرد عليها باعتبارها « منسوبة« ليس إلا!! وشمل الإخفاء ما يشبه التضليل لكبار القادة العسكريين الذين قال أحدهم بأن الرسالة كتبتها امرأة في أفغانستان وأرسلتها إلى امرأة في حلب قبل أن تنشر باسم الظواهري!! ومع ذلك لم تعقب « القاعدة» ولا « النصرة» ولا « السوري»، على إخفاء الرسالة ولا على خطاب البغدادي الذي وصفها بالمنسوبة للظواهري ولا على ما أشيع من أن كاتبتها امرأة. فما الذي دفع « الدولة» إلى انتهاج هذا السلوك ( إخفاء، تشكيك، طعن منهجي وشرعي، وتضليل) في حين أنها تعلم يقينا أن الرسالة بحوزة طرفين آخرين غيرها التزما الصمت إلى أن تسبب تعميم التشكيك على قواعد « الدولة» وتحريضهم ضد « النصرة» بتسريب الرسالة صوتيا إلى قناة « الجزيرة».
(6) أهم ما في الوثيقة أنها أخبرت عن اجتماعات انعقدت بين « النصرة» و « الدولة» قبل خطاب البغدادي، وعن رسالة وجهتها « النصرة» للظواهري بموافقة البغدادي للفصل في الخلافات بين الجانبين. إلا أن البغدادي عاجل الرد بخطاب أعلن فيه عن التشكيل الجديد لـ « الدولة». وهذا يطرح سؤالا على « الدولة» في ضوء وصف « جبهة الجولاني» بـ « جبهة الغدر والخيانة» كما ورد في خطاب العدناني: « ثمَّ نبتهلْ فنجعلْ لعنةَ اللهِ على الكاذبينَ - مُؤسَّسَةُ الاعتصامِ لِلإِنتَاجِ الإِعلَامِيّ، جمادى الأولى 1435هـ - مارس 2014م». فبموجب الوثيقة فإن البغدادي، يغدو في موقف لا يحسد عليه من هكذا توصيفات.
لا ريب أن تحذير البغدادي من نقل التجربة العراقية إلى الشام مسألة تبعث على التأمل. فهي من ناحية تُحسب له لا عليه، ومن ناحية ثانية تبعث على التساؤل: لماذا يطلق البغدادي مثل هذا التحذير؟ وما هو محتوى الحذر من التجربة؟ ولماذا تجاوز البغدادي تحذيراته ذاتها؟ ولماذا يبدو أن معظم قادة « الدولة» الكبار انتقلوا من العراق إلى الشام!!!؟ وهل ثمة من أقنع البغدادي بالخروج عن النص أم أنه خارج عن النص أصلا؟ وهل فعلا أن أبي علي الأنباري وحجي بكر، وليس البغدادي، هما المسؤولان المباشران عن الفتنة في الشام؟
*************************
هوامش
(1) هذا ما ورد في تصريحات، المتحدث الرسمي باسم « الجيش الإسلامي» في العراق، إبراهيم الشمري، على قناة « الجزيرة».
* لو تتبعنا قضية أبو العبد أمير « الجيش الإسلامي» في العامرية لتبين لنا من تصريحاته لصحيفة الغارديان البريطاني (10/11/2007) بأنه قتل، لوحده قبل سنة من أحداث العامرية، ستة من عناصر وقادة القاعدة في العامرية دون أن تعرف القاعدة من هم القتلة!
(2) فتوى الشيخ حامد العلي: http://ift.tt/1jx5sCk
(3) كنا قد واكبنا الساحة العراقية بتفاصيلها آنذاك. ولا يسمح المجال لذكر التفاصيل والتصريحات المخزية التي صدرت تشرع للخيانة والعمالة في أبشع مضامينها. ومن يرغب في التعمق يمكنه مراجعة تغطيتنا لوقائع المشروع الجهادي في العراق على موقع المراقب: http://ift.tt/1h77WsB
**************************
الحلقة القادمة
الاستنساخ
الانقسام
(4)
د. أكرم حجازي
20/4/2014
الجهاد في العراق حدث له تاريخية تستدعي القراءة العميقة وليس سوْق الاتهامات العشوائية والمغرضة من كل حدب وصوب. إذ أن كل مرحلة من مراحله لها تاريخية خاصة بها لا يصح تناولها بمنطق الخصومة سواء في ميادين الحدث العراقي أو في ميادين الحدث الشامي. كما أنه لا يصح أيضا إحالة تلك الكوارث فقط إلى سياسات القوى الجبرية وأدواتها التي لا يمكن أن تجد لها طريقا ممهدا ما لم يكن هنالك من أفسح لها الطريق بعلم أو بجهل أو غلو أو هوى أو حماقة أعيت من يداويها.
ما من أحد في الأمة إلا ويعلم اليوم أنه ثمة مشكلة طاحنة يجب الاعتراف بها ومواجهتها بشجاعة وإيمان، وبكل ما تحتاجه من شمولية وموضوعية وإنصاف وحكمة وتقوى وليس التنصل منها أو اعتزالها أو ممارسة الهدم كيفما كان أو تحميل هذا الطرف دون ذاك مسؤوليتها. فليس ثمة فرد أو جماعة أو حركة في الشام أو في أية ساحة من ساحات الجهاد ملائكة وشياطين .. بل بشر؛ وصحابة أصابوا وأخطؤوا والوحي ينزل؛ فكيف بحال من هم تحت « الجبر»؟
في استعراضنا للمشكلة سنعتمد أكثر ما يكون على الوثائق الرسمية والشهادات الموثقة مرئيا وسمعيا وكتابة بعيدا عما تعج به وسائل التواصل الاجتماعي والشبكات الإسلامية من مهاترات وفبركات وأكاذيب وفجور في الخصومة فاق كل التصورات. وفي هذه الحلقة سنعرض لأربعة محاور هي:
أولا: تاريخية إعلان « الدولة» في العراق
ثانيا: خطاب « التمدد»
ثالثا: تأسيس جبهة « النصرة»
رابعا: التعقيب على « الوثيقة»
أولا: تاريخية إعلان « الدولة» في العراق
ففيما يتعلق بـ « دولة العراق الإسلامية» فلم يكن تأسيسها « كرتونيا» ولا عشوائيا بقدر ما كان نتاج لتاريخية دشنت انطلاقتها الأولى رحلة أبو مصعب الزرقاوي من هيرات في أفغانستان إلى بغداد. وقد ذكر أبو حسين المهاجر، الذي عاصر بعضا من تجربة « القاعدة» في العراق، في كتاب له ظهر سنة 1427هـ بعنوان: « الانتصار لأهل التوحيد - 27 ذي القعدة سنة 1427 هـ، ص 14»، بعضا من هذه التاريخيات.
• التاريخية الأولى، مرت فيها « القاعدة» بمرحلتين من التطور وهما:
- « الحاجة إلى وجود قيادة واضحة».
فقد دفع اتساع حجم الجماعة ( جماعة الزرقاوي ما قبل التنظيم) ونشاطها العسكري أبو أنس الشامي إلى حاجة الجماعة إلى أمير يقودها ويسهر على شؤون الجهاد والمجاهدين. وتبعا لذلك استقر الرأي على أبو مصعب الزرقاوي الذي يبدو أنه لم تكن تعنيه القيادة فعلا.
- « الحاجة إلى تنظيم العمل».
فقد استعرت الحرب، وتم تنفيذ سلسلة من العمليات الكبرى دون أن يعلن عنها أحد، الأمر الذي أغرى بعض الجماعات، حتى لو كانت وهمية أو بهدف تحقيق مكاسب معينة، كي تتقدم وتتبنى: « بعضاً منـ }ها{ زوراً وبهتاناً»، فما كان من أبي أنس الشامي إلا أن بادر للمرة الثانية، وبإصرار: « على وضع اسم للجماعة، حفاظاً على ثمرة الجهاد ... فكان هذا الاسم جماعة التوحيد والجهاد».
• التاريخية الثانية كانت في مبايعة الزرقاوي لتنظيم « القاعدة»، والتي أسفرت عن تأسيس « قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين - 8/1/2004»؛
• التاريخية الثالثة حين الإعلان عن تأسيس « مجلس شورى المجاهدين - أكتوبر/ تشرين الأول2005»، والذي تخلى فيه الزرقاوي عن القيادة لصالح عبد الله رشيد البغدادي. أما ما عرف بـ « حلف المطيبين - 13/10/2006» فلا يرقى إلى أن يكون بمثابة تاريخية رابعة كونه جاء فقط كمعطى إعلامي خبري لا يفصله عن التاريخية الرابعة سوى يومين، فضلا عن أنه خلا من أية معلومات يمكن الاستناد إليها في التحليل لمعرفة وزنها الحقيقي في الواقع. وكل ما لدينا شريط مقتضب ظهر فيه بضعة ملثمين قيل أنهم من قادة العشائر ومجلس الشورى يتعاهدون فيه على تحكيم الشريعة والانتصار للجهاد والمجاهدين في العراق.
التاريخية الرابعة بدأت تباشيرها الأولى تظهر بعيد الخطاب المرئي الشهير للزرقاوي « هذا بيان للناس - 25/4/2006»، والذي تسربت منه مقتطفات لم يتضمنها، وهو يحاور بعض مجالسيه، حول إمكانية إعلان إمارة إسلامية في غضون ثلاثة أشهر، إلا أنه قتل قبل أن يعلن الإمارة، فجاء الإعلان من خلَفه أبو عمر البغدادي بصيغة « دولة العراق الإسلامية - 15/10/2006».
الجريمة
من اللحظة الأولى لإعلانها تعرضت « الدولة» لحرب ضروس في الوقت الذي كانت تخوض فيه أخرى مثيلة ضد القوى الدولية والمليشيات الشيعة والمرتزقة وحكومة المالكي، إلى أن أعلنت الحرب على المصالح الإيرانية في العراق، وأعطت مهلة شهرين لكل من تربطه من العراقيين علاقة عمل أو تجارة مع إيران لتصفيتها. إلا أن مشروع الصحوات عاجلها قبل أن تنفذ تهديدها. هذا المشروع كان من تدبير أمريكي بامتياز، ولعل أبرز ما في هذا السياق تخصيص الإدارة الأمريكية لمبلغ 23 مليار$ لمواجهة « دولة العراق الإسلامية» بحسب المتحدثة باسم البيت الأبيض، والأهم منه تصريح ستيفن بيدل، كبير الخبراء في السياسات الدفاعية في مجلس العلاقات الدولية الأميركية، حين وصف المشروع بأنه « أنجح صفقة بتأريخ الحروب». وكانت أول إنجازاته اختراق بعض أبرز قيادات الجماعات الجهادية ذاتها، بغية الحصول على مشروعية الطلقة الأولى، قبل أن يوفر لهذه الطلقة ما يلزم من الشرعيات الاجتماعية والعقدية والحركية التي لم تكن تجرؤ على المساس بالمشروع الجهادي أو المجاهرة بولائها للأمريكيين وترحيبها بهم.
بطبيعة الحال لا نعني بالاختراق كمرادف حصري للعمالة أو الخيانة في المبدأ والمنتهى، رغم أنه، بهذا المعنى، ينطبق على بعض الشخصيات والقوى السياسية التي اعتادت ألا ترى في الولايات المتحدة أصلا إلا قبلة تُتَّبَع، ومع ذلك فالمفهوم يتسع ليشمل توظيف التباينات في المنظومة الفكرية وإجمالي التصورات الذهنية والأيديولوجية وحتى التأويلات الشرعية على مستوى الأفراد والجماعات، بما يخدم السياسة الأمريكية بوعي أو بدون وعي.
إعلان « الدولة»، بحد ذاته، أو توصيف البغدادي الأول ( أبو عمر) لمن لم يبايع « الدولة» بـ « العصاة»، لم يكن هو مَن أثار غالبية الجماعات الجهادية ضد « الدولة». بل مضمون الإعلان وهويته وأهدافه وتطلعاته كمشروع ترى فيه « الدولة» نواة للخلافة الراشدة في حين تراه القوى الأخرى حلما بعيد المنال. فالجماعات الجهادية لم تكن لتتحمل قيام دولة إسلامية ولا حتى تطبيق الشريعة، ولم يكن الأمر يتعلق بمدى السيطرة الفعلية لـ « الدولة» على الأرض أو بغيرها ولا بالأمير المجهول أو المعلوم، لاسيما وأن كافة أمراء الجماعات كانوا أخفياء عن الإعلام تماما، ولا بهذا أو بذاك بقدر ما بدت الجماعات محترزة من صراع طويل وقانعة بإعادة تقاسم السلطة وتقديم ما يلزم من الضمانات الأوروبية أو الروسية أو الإسبانية لحفظ المصالح الأمريكية والغربية كمقدمة للاندراج مجددا في صيغة النظام الدولي القائم.
والحقيقة التاريخية التي لا تحتاج إلى جدل تؤكد أن الذين عارضوا إعلان « الدولة» لم يوافقوا من قبل على مقترحات التوحد التي جاءت في اجتماع الفلوجة الثاني لمواجهة الأمريكيين، ولا على الانضمام إلى « مجلس شورى المجاهدين»!! هذا الخيط التقطته مؤسسة « راند» لتوصي في دراسة لها القيادة الأمريكية بالعمل على زرع الخلافات بين الجماعات الجهادية. ففي 18/11/2006 تناقلت وسائل الإعلام الدولية والعربية نبأ دراسة للمؤسسة عن تنظيم « القاعدة» توصي فيها المسؤولين وأصحاب القرار الأمريكي بضرورة توجيه الحرب ضد « القاعدة» انطلاقا من عقيدتها وليس مواجهتها عسكريا فحسب. وتقضي التوصية التي رفعتها المؤسسة بهذا الخصوص بالعمل على: « زرع الخلافات بين تنظيم القاعدة والحركات الجهادية المحلية في مواطنها»، مشيرة إلى أن: « عقيدة القاعدة تعاني من نقاط ضعف قابلة للاستغلال»؛ تأسيسا على أن: « عقيدة القاعدة لا تتبناها جميع الحركات الإرهابية أو المتمردة في العالم»، وبالتالي دعوة الولايات المتحدة: « إلى محاولة ضرب العلاقة بين المجموعات الجهادية المحلية والمجموعات العالمية، عبر التركيز على الخلافات بينها» .. هذا ما قالته الباحثة أنجيل راباسا، التي ساهمت في الإشراف على الدراسة.
كانت الحاجة الأمريكية ماسة لتحقيق هدفين بأقصى سرعة: (1) وقف المد الجهادي الإسلامي ومحاصرة الأطروحة العقدية التي باتت تسري في أنحاء العالم الإسلامي، والتي عبر عنها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في خطاب له خلال زيارته العاصمة الاندونيسية - جاكارتا بالقول: « إنهم يريدون إقامة خلافة»، و (2) منع انهيار القوات الأمريكية في العراق. والمؤكد قطعا أن تقرير الجنرالات الأمريكيين كان حاسما في وقف الجدل، والمسارعة في إطلاق مشروع الصحوات خاصة بعد أن كشفت صحيفة « الغارديان - 1/3/2007 » البريطانية النقاب عن التقرير تحت عنوان: « القادة العسكريون الأميركيون يعترفون: نواجه انهيارا مثيلا لانهيارنا في فيتنام»، قالت فيه: « إن فريقا من نخبة الضباط الأميركيين في بغداد توصلوا إلى قناعة مفادها أنه لم يعد أمام أميركا سوى ستة أشهر للانتصار في الحرب على العراق أو مواجهة انهيار على الطريقة الفيتنامية... وقولهم أن هذا الانهيار سيكون أولا في مدى التأييد الشعبي والسياسي، ما قد يجبر الجيش على سحب قواته بصورة متعجلة »، في حين عبر نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني عن رغبة بلاده بإنهاء مهمتها في العراق و « العودة بشكل مشرف». هذا التقرير أصاب بوش بنوع من الهستيريا عندما صرخ مخاطبا الدول العربية بالقول: « لما لا يتحركون وهم يعلمون أنهم مستهدفون مثلنا؟» تبعه تحرك كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأمريكي، التي حضرت إلى المنطقة وعقدت اجتماعا مع مدراء أربعة أجهزة مخابرات عربية!!! أما روبرت غيتس، وزير الدفاع الأمريكي الجديد آنذاك، قد أفصح عن مكنون الولايات المتحدة في ترجمة الاختراق في صورة عملية سياسية مشددا على أنه من غير الممكن تخفيض درجة العنف تمهيدا لاحتوائه والقضاء عليه ما لم يتم استرضاء أهل السنة، أما الوسيلة الأنجع في إغرائهم، ولكن بإشراف أمريكي، فهي التحول من إطلاق يد الشيعة إلى إطلاق يد السنة وإدخالهم في العملية السياسية.
كانت الاجتماعات والاتصالات والتنسيق مع الكثير من القوى السياسية والجهادية تدور حول فكرة أن الولايات المتحدة بصدد الانسحاب من العراق، وأنه إذا لم تتوافق القوى السنية فيما بينها وتشكل قوة موازية للشيعة تحفظ بموجبها حقوقها وسلامة العراق وأمنه فإنها ستخسر. ولأن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة لتحمل المزيد من الاستنزاف في قواتها ومواردها واقتصادها، فإن انسحابها سيعني في المحصلة أن العراق سيكون بين يدي الشيعة أو « القاعدة». لذا ما من حل يحفظ للسنة حقوقهم إلا بإغرائهم سياسيا بحيث تصبح « القاعدة» هي العقبة التي لا بد من التخلص منها.
والحق أن الأمريكيين كانوا قد شرعوا، كعادتهم، في عمليات اختراق مبكرة انطلقت من سجن بوكا، إلى جانب اختراقات أخرى قادتها اجتهادات سياسية مالت بطبيعتها إلى المشاركة في العملية السياسية سرا أو جهرا، وأخرى قبلت بتفاهمات مع الحكومة العراقية على بعض القضايا الحيوية كالنفظ والكهرباء، وعمليات اختراق وقعت على خلفية الافتراق في أهداف الجهاد، ومثلها حركية تصدرتها تيارات وجماعات وشخصيات اجتماعية وقبلية وجهادية وقوى إسلامية وعلماء ومشايخ داخل العراق وخارجه، فضلا عن الجهود الاستخبارية الإقليمية والدولية التي مولت ووفرت الغطاء الشرعي والسياسي والإعلامي. ومن الطريف أنه قبل انطلاق المشروع ميدانيا بحملات تحريض وتشويه إعلامية ضارية، وسط انشقاق جماعات وتشكيل جبهات واصطفاف فضائيات وتصدير فتاوى كانت عمليات الاغتيال بحق عناصر « القاعدة» وقياداتها قد سبقته بعام. وخير من قام بتوصيف هؤلاء هو « سفر الحقيقة» الذي أصدرته جماعة أنصار الإسلام في 14/7/2008. وفي معرض الحديث عن « جبهة الجهاد والإصلاح» التي شكلها « الجيش الإسلامي» للغرض مع بعض الجماعات الأخرى الوهمية أو الحقيقية أقر السفر، وللمرة الأولى، أن: « البوادر الأولى لمواقف تلك الجبهات ظهرت بعد أحداث العامرية، وديالى، والرمادي، وذلك بعد أن قاموا بترجمة المطالب الأمريكية قبل تنفيذ الوعود المقطوعة لهم، كعربون لتوطيد علاقة الجبهة بأمريكا، فبدأت الأيادي التي تدعم مشروع الجبهة بضخ أموال طائلة إلى الساحة«. هؤلاء الذين اتخذوا على عاتقهم « الوقوف كتلة بوجه القاعدة» كما يقول أبو عبد الله الشافعي أمير « الأنصار» هم بلغة « السفر»:
« [ الفريق الضخم من تحالف العملاء، والمنافقين، على اختلاف أشكاله وأنواعه، متوافقون، أو متنافسون، أو متحاربون، لا يخرجون عن دائرة العمالة للمحتل، والنفاق للمجتمع، وهم أولاً وآخراً، عيون المحتل، واستخباراته، متلونين بكافة ألوان اللغات السياسية، والمبادئ، والقيم.
1) لا يجمعهم منهج مبدئي ثابت، ولا قيميٌ أصيل، بل الجامع والرابط لهم بالمحتل المصلحة الآنية المتحققة،
2) ولا تقتصر هذه الفئات العميلة على تيارٍ فكريٍ بعينه, ولا زمرةٍ عرقية، أو دينية معينة..
3) وفي هذا الطابور، ترفع الرايات بمختلف الشعارات، والهويات، بدءاً من الإسلامية المزعومة, ومروراً بكامل ألوان الطيف السياسي!!
4) وجميعهمٍ لا ينتمون إلى أمة الإسلام إلا بالأسماء والأشكال ] ».
ما بين إعدام الرئيس العراق صدام حسين صبيحة عيد الأضحى في 30/12/2006 و صدور بيان « الجيش الإسلامي - 5/4/2007» الذي دشن الاقتتال على الساحة العراقية ظهرت بوادر حملة إعلامية منسقة سبقت البيان، وقد تصدرتها آنذاك قناة « الزوراء » لصاحبها مشعان جبوري، مع العلم أن القناة ظلت تبث طوال عامين عمليات « القاعدة» و « دولة العراق الإسلامية» وبعض خطابات « القاعدة»!! ويبدو أن هذه السياسة استهدفت عامة الناس وخاصتهم حتى إذا ما ألفوها واعتادوا عليها أمكن تمرير خطاب الفتنة إلى عشرات الملايين من المسلمين. وفيما يلي بعض ما فعلته القناة:
- في 2/1/2007 نظمت قناة « الجزيرة» حلقة مميزة من برنامج الاتجاه المعاكس عقب يومين من إعدام الرئيس صدام حسين بين صادق الموسوي ومشعان الجبوري صاحب قناة « الزوراء» العراقية المطاردة و « الممنوعة» من بث البرامج إلا من عمليات المجاهدين في العراق بما فيها عمليات « دولة العراق الإسلامية» فضلا عن خطابات بعض قيادات « القاعدة» ورموزها!! وقد لوحظ أن الحلقة كانت عاصفة للغاية وغريبة للغاية بحيث افتتحها الجبوري بقراءة الفاتحة على روح الرئيس ليظهر زعيما وطنيا وعربيا هتف له الملايين من العرب والمسلمين على تصديه الشجاع للموسوي الذي ثبت أنه إيراني وليس عراقي!
- في الفترة ما بين 13/2/2007 - 15/2/2007 شرعت قناة « الزوراء»، ودون سابق إنذار، في بدء حملة إعلامية معادية للقاعدة ولـ « دولة العراق الإسلامية». إذ ظهر في الشريط الإخباري للقناة عبارات هجومية حادة من نوع: « المقاومون العراقيون يرفضون استهداف تنظيم القاعدة للمدنيين الآمنين والأسواق لأن ذلك يبدد وحدة الشعب العراقي ... المقاومون يرفضون مبايعة من يدعو إلى تفتيت العراق إلى دويلات ويكفر الناس ويفجر الصراعات الطائفية ... المسلحون التكفيريون يقتلون العشرات من مقاتلي المقاومة العراقية لرفضهم المبايعة على تفتيت العراق ولحمته ... المقاومة العراقية تنتقد التنظيمات المتشددة الوافدة لقيامها بعمليات تفجير تتعدى آثارها الهدف المقصود في مواجهة الاحتلال وتصيب المدنيين وتزرع الفتنة ... ».
- في توقيت نموذجي للعائلة، الساعة 7.30، ومساء يوم 17/2/2007 وجه مشعان الجبوري كلمة مصورة لـ « القاعدة» حمل فيها بشدة على التنظيم، وخاطب أبي عمر البغدادي منتقدا ما أسماه عمليات قتل نفذتها « القاعدة» ضد المدنيين من الشيعة والسنة على السواء، وضد بعض الوجهاء وشيوخ العشائر والوطنيين والمقاومين والمجاهدين من الجماعات الأخرى بحجة أن القتلى عملاء أو لأنهم لم يبايعوا على إعلان « الدولة»، بالإضافة إلى ذكره للكثير من أسماء الضحايا وظروف مقتلهم. ولا شك أنها المرة الأولى التي تتعرض فيها « القاعدة» لهجوم تلفزي مصور ومركز على امتداد 32 دقيقة وأمام عشرات الملايين من المشاهدين. ولا شك أيضا أن مثل هذا الهجوم الفريد من نوعه في الجرأة على « القاعدة» قد خلف ضررا فادحا في سمعة « القاعدة» التي لا تمتلك أية وسيلة إعلامية للرد بنفس المستوى على ما تعرضت له، خاصة وأن العامة من الناس ألفت قناة « الزوراء» في بثها لعمليات المجاهدين، لكنها الآن تستمع وتشاهد الجبوري دون أن يكون لـ « القاعدة» فرصة عادلة للرد على خطاب الجبوري، ناهيك عن أن الأفلام المصورة لن تحقق الغرض حين تواجه قناة تلفزيونية.
- وفي نفس اليوم (17/2/2007) انفردت مجلة « العصر» الإلكترونية، السرورية المنشأ والمقصد، بنشر ما قالت أنها وثائق سرية من جهاز المخابرات العراقية تمكن مراسلها من الحصول عليها من مصادر سنية وصفتها بـ « الموثوقة» تكشف عن علاقة « القاعدة» بإيران. وقبل هذا وذاك نشرت المجلة بضعة مقالات تناولت « القاعدة» بالنقد الشديد دون أن تمس أية جماعة أخرى مما حدا بمناصري « القاعدة» إلى شن هجوم لاذع على المجلة واتهامها بالانضمام إلى الحملة المناهضة لها. أما موقع « المختصر» فقد انحاز بالكامل إلى الحملة المناهضة.
- في 22/2/2007 تناقلت بعض المواقع الإلكترونية « الملف نت» بيانا باسم « مجلس شورى المجاهدين» ( = تنظيم « القاعدة» في العراق) يتضمن تحذيرات من التعامل مع مشعان الجبوري والكاتب العراقي سمير عبيد باعتبارهما يحرضان على الفرقة بين الأخوة المجاهدين، ويحمل عليهما بشدة بالغة واصفا إياهما بالعمالة والحثالات. ونسبت بعض الصحف البيان إلى شبكة البراق الإسلامية. غير أن المنتديات السلفية شككت بالبيان ونسبته إلى القاعدة، وحتى باللغة التي صيغ بها.
- في 24/2/2007 انفجرت شاحنة مفخخة في مسجد الصحابة في حي العمال وسط مدينة الحبّانية غرب الفلوجة. وأسفر الهجوم عن مقتل قرابة 45 شخصا من المصلين والمارة فضلا عن عشرات الجرحى كلهم من السنة، وأذاع موقع « المختصر» أن سبب الهجوم هو انتقاد شيخ المسجد لتنظيم « القاعدة»!! غير أن الملفت في خبر الموقع أنه خصص، على طوله، لانتقاد القاعدة واستعمال نفس اللغة التي يهاجم بها الجبوري « القاعدة». وغني عن البيان أن الموقع ضليع في الحملة على « القاعدة»حتى النخاع.
- في 9/3/2007 انشقاق « كتائب العشرين» والإعلان عن حركة المقاومة الإسلامية « حماس العراق». وهو الانشقاق الذي يتحمل مسؤوليته « الحزب الإسلامي» بزعامة طارق الهاشمي.
- في 4/4/2007 رد الشيخ حامد العلي على سؤال: « هل من لا يبايع ( دولة العراق الإسلامية ) عصاة؟! وهل هو واجب العصر ؟! » بفتوى قال فيها: « ننصح بالرجوع عن إعلان ما سمّى الدولة الإسلامية، وأن يكونوا ـ كما كانوا سابقا ـ فصيـلا جهاديـا يقف مع بقية الفصائل تحت راية الجهـاد».
- وفي اليوم التالي (4/4/2007) أصدر « الجيش الإسلامي»، بالتزامن مع فتوى الشيخ حامد العلي، بيانه الذي دشن فيه رسميا إعلان الحرب على « دولة العراق الإسلامية». وبرر بيانه بأن العلماء سكتوا!!! وفي ثناياه قال البيان: « لم نسارع في رد ما اتهمنا به انتظارا لرد العلماء الربانيين ... ولكن لم يتكلم أئمتنا فكان لابد من بيان بعض الأمور»، وفي موضع آخر من البيان طالب: « علماء الأمة بأن يقوموا بواجبهم الشرعي لتدارك المشروع الجهادي في العراق ... وعدم السكوت»! في حين تبرأ 13 عالما ببيان بتاريخ 18 نيسان / أفريل 2007 حمل اسم « نداء للمجاهدين في العراق»، من الفتنة، ودعوا كافة الجماعات الجهادية إلى تجنبها وإصلاح ذات البين قبل أن تذهب ريح القوم وتسفك الدماء ويفشل المشروع الجهادي، وهم ممن سبق والتقاهم قائد « الجيش الإسلامي» في استراحة الشيخ ناصر العمر، ولم يسكتوا بل رفضوا إعطاءه فتوى تجيز « إدانة القاعدة ومقاتلتها».
جريمة تاريخية وشرعية بكل المقاييس تصدرها نخبة ممن تباهوا بمن هو صاحب السبق في الخيانة والعمالة والقتل أمثال أبو العبد وأبو عزام التميمي وعبد الستار أبو ريشة وطارق الهاشمي وعبد الغفور السامرائي وحميد الهايس وغيرهم وأمثالهم ممن برعوا في الكذب ومردوا على النفاق والتدليس، ودمروا المشروع الجهادي كي تحظى الولايات المتحدة بـ « عودة مشرفة» !
ثانيا: خطاب « التمدد»
في مساء يوم 9/4/2013، وبينما كنت على وشك أن أعد حقيبتي للسفر باتجاه مصر، خبرت بكلمة للشيخ أبو بكر البغدادي، أمير « دولة العراق الإسلامية»، بعنوان: « وبشّر المؤمنين»، صدرت عن مؤسسة « الفرقان»، وتحمل صفة عاجل!!! فتعجبت من البشرى والصفة، لاسيما وأنه لم يسبق لـ « الفرقان» أن خاطبت أية جهة كانت بهذه الصفة. لا أنكر أنني كنت أتلهف لمعرفة سر العجلة خاصة وأنني كـ « مراقب» للتيار الجهادي العالمي، منذ سنوات، غدوت أبعد ما أكون عن الدهشة أو الوقوع ضحية المفاجآت. فما كان مني إلا أن أقطع مسافة زمنية بمقدار 21.30 دقيقة حتى يتبدد العجب ويزول ما بدا قلقا غير معهود. فبدأت أستمع إلى الكلمة، وعاينت فيها حديثا عن الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى، وأنه (1) لا يفكر بهذا الارتقاء والتسامي إلا من آتاه الله تعالى بُعدًا في النظر وإحاطة بالمصالح العامة، وبما تنتظره الأمة من المجاهدين، و (2) إلا من رزقه الله تعالى العلم بالمواطن التي تغيظ الكفار والمرتدين، وأنه (3) يحتاج إلى أن نتغلب على عواطفنا وعقولنا؛ لأنه مطلب شرعيّ، والشرع مقدم على كليهما، وأنه (4) يحتاج إلى أسماء جديدة تحمل عبق الإسلام في توسعه، وفي امتداده وفي انتشاره.
بقيت أستمع إلى الكلمة بنوع من القلق والريبة خاصة وهو يستذكر مسارات « التوحيد والجهاد» التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي وصولا إلى إعلان « دولة العراق الإسلامية»!!! ولم أتوقف أبدا عند كشف البغدادي عن حقيقة « جبهة النصرة» باعتبارها امتدادا لـ « دولة العراق الإسلامية»، مع أنني تعجبت من المصلحة في ذلك!!!
لكني توقفت مندهشا عند الفقرة التالية: « عقدنا العزم بعد استخارة الله تعالى، واستشارة من نثق بدينهم وحكمتهم: على المضي بمسيرة الرقي بالجماعة»، وأكثر عند عبارة: « متجاوزين كل ما سيقال»؛ وبكثير من الدهشة لدى سماعي فقرة الإعلان عن « الدولة»: « نعلن متوكلين على الله: إلغاء اسم دولة العراق الإسلامية، وإلغاء اسم جبهة النصرة، وجمعهم تحت اسم واحد: (الدولة الإسلامية في العراق والشام) »، وأكثر في هذه الفقرة: « وبهذا الإعلان يتوارى بإذن الله تعالى ويختفي اسم دولة العراق الإسلامية واسم جبهة النصرة عن التداول في تعاملاتنا، ويكونان جزءًا من تاريخنا الجهادي المبارك كسابقاتهما»، وأخيرا فقرة: « وإننا في ذات الوقت: نمد أيدينا واسعة، ونفتح أحضاننا وقلوبنا للفصائل المجاهدة في سبيل الله تعالى، وللعشائر الأبية في أرض الشام الحبيبة، على أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تحكم العباد والبلاد بأحكام الله تعالى، دون أن يكون لغير الله تعالى أي نصيب في الحكم».
كانت أول جملة نطقتها وأنا أستمع إلى الفقرات الأخيرة هي: « هل ثمة أحد ما يصوب مسدسا فوق رأس البغدادي ليتكلم بهذا الكلام؟ » وتتالت التساؤلات العفوية الواحد تلو الآخر من نوع:
• حتى لو كان البغدادي معتقلا؛ وثمة من يصوب مسدسا فوق رأسه فلا يحق له أن يدلي بمثل هذه التصريحات، وحتى لو مزقوه ومشطوه بأمشاط الحديد فليس له الحق إلا أن يصبر ويحتسب ولا ينطق بمثل ما نطق.
• ما هي المصلحة الشرعية التي ستجنيها الأمة من هكذا إعلان يمس جماعة صارت: (1) أهزوجة للثورة السورية والمجاهدين والأنصار في العالم، و (2) جرأت الأمة على الجهاد دون وجل، و (3) وطهرت المشروع الجهادي في العالم من حملات التشويه والتحريض، و (4) قدمت نموذجا إسلاميا جهاديا مشرقا يتغنى به القاصي والداني إلا من اتخذ إلهه هواه وسخر نفسه مطية للخصوم والأعداء الذين لم يتجرؤوا على المساس بـ » إلا ولاقوا الإدانة والاستنكار، و (5) دفعت شعبا ثائرا برمته أن يتحدى الولايات المتحدة التي وضعت الجبهة على قائمتها للإرهاب؛ ويخرج بجمعة أسماها « جبهة النصرة تمثلني»، رغم محاولات تزوير التصويت التي اعتاد عليها القائمون على صفحات الثورة السورية؟
• ما هو حال أمير الجبهة؟ وما هي صفته بعد الإعلان؟ هل عاد جنديا أم سيبقى أميرا أم اعتقل أم قتل أم ماذا؟ وما هو حال الجنود الذين يكونون على الثغور وهم يستمعون لمثل هذا الخطاب ويتساءلون: ما الذي يجري؟ أو من هو الأمير الجديد؟ أو لماذا حصل ذلك دون أن نعلم؟ أو ماذا سنفعل إذا انقسمنا؟ أو ماذا حل بالأمير؟
• كيف سيكون رد فعل التيار الجهادي وساحاته في العالم وأنصاره وكذا العلماء والمثقفين والمفكرين والمشايخ والدعاة والمراقبين والصحفيين والكتاب ممن تابعوا نشاط التيار في العالم ودفعوا أثمانا باهظة لقاء تغطية فعالياته القتالية والدعوية في شتى أصقاع الأرض؟
• كيف سيكون حال الجهاد في الشام بعد هذا الخطاب؟ وهل هذا ما ينقص الجهاد في الشام! فرقة وتمزق والأعداء على الأبواب ومن كل جانب؟ وما هي ردود فعل القوى الجهادية والمقاتلة الأخرى؟ بل كيف ستكون ردود الفعل لدى الداعمين والناصرين للجهاد الشامي من الخارج وقد كشف الخطاب عن علاقة الجبهة بـ « الدولة» .. وهو الكشف الذي سيلزم كافة المناصرين والداعمين والمدافعين عن الجهاد الشامي بتوخي الحذر خشية الملاحقات الأمنية والقانونية؟
• كيف يحصل مثل هذا الأمر الذي من شأنه إشغال الأمة في الوقت الذي تشهد فيه الساحة العراقية غليانا شعبيا ضد الطائفية هي أحوج ما تكون فيه إلى التمتع بأقصى درجات الحكمة والمسؤولية وتركيز الجهد باتجاه الحشد ضد نظام بات نسخة طبق الأصل من النظام النصيري في سوريا؟
سارع الجولاني أمير « جبهة النصرة»، « مكرها» كما قال أبو خالد السوري، إلى الاحتماء بـ « القاعدة» كحكم بين الطرفين فيما يتعلق بقرار البغدادي. وخرج في اليوم التالي (10/4/2013) محاولا، بنظر العامة من الأمة وحتى الخاصة، إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فقال: « نحيط الناس علما أن قيادات الجبهة ومجلس شورتها والعبد الفقير المسؤول العام لجبهة النصرة لم يكونوا على علم بهذا الإعلان سوى ما سمعوه من وسائل الإعلام. فإن كان الخطاب المنسوب حقيقة فإننا لم نُستشر ولم نُستأمر»، وتابع: « وإني لأستجيب إذن لدعوة البغدادي حفظه الله بالارتقاء من الأدنى إلى الأعلى وأقول هذه بيعة من أبناء جبهة النصرة ومسؤولهم العام نجددها لشيخ الجهاد الشيخ أيمن الظواهري حفظه الله فإننا نبايع على السمع والطاعة في المنشط والمكره والهجرة والجهاد وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن نرى كفرا بواحا لنا فيه من الله برهان ... وستبقى راية الجبهة كما هي لا يُغير فيها شيء رغم اعتزازنا براية الدولة ومن حملها ومن ضحى وبذل دمه من إخواننا تحت لواءها».
بعد شهرين بالضبط من إعلان البغدادي رد الظواهري على رسالة الجولاني برسالة مكتوبة يعلن فيها تخطئة الأميرين، مشيرا إلى أن: « ما حدث من كلا الطرفين لم نستأمر فيه ولم نستشر، ولم نخطر به، وللأسف سمعناه من الإعلام كغيرنا». وفي فضه للخلاف قال:
• « أخطأ الشيخ أبو بكر البغدادي الحسيني بإعلانه دولة العراق والشام الإسلامية دون أن يستأمرنا أو يستشيرنا، بل ودون إخطارنا؛
• أخطأ الشيخ أبو محمد الجولاني بإعلانه رفض دولة العراق والشام الإسلامية دون أن يستأمرنا أو يستشيرنا، بل ودون إخطارنا».
• « تلغى دولة الشام والعراق الإسلامية، ويستمر العمل باسم دولة العراق الإسلامية». وولايتها المكانية العراق.
• « جبهة النصرة لأهل الشام فرع مستقل لجماعة قاعدة الجهاد يتبع القيادة العامة». وولايتها الشام.
• وفي آخر الرسالة يعلن الظواهري عن انتداب أبو خالد السوري كممثل للقاعدة يرجع له « الفصل في أي خلاف في تفسير هذا الحكم»، ويكون له صلاحية « تشكيل محكمة شرعية في حالة وقوع أي تعد من أحد الطرفين على الآخر».
أنكرت « الدولة» بلسان البغدادي وأبي محمد العدناني « فذرهم وما يفترون – 19/6/ 2013» رسالة الظواهري إلا من توصيفها بـ « المنسوبة» إليه!!! وفي خطاب له بعنوان: « باقية في العراق والشام – 14/6/2013 « رفض البغدادي قبول الحكم بحجة اشتمال الرسالة على مخالفات منهجية وشرعية مشددا على عدم تراجعه عن التمدد باتجاه الشام:
} الدَولةَ الإسلامية في العِراق والشام بـاقـيـة ما دامَ فينا عِرقٌ يَنبِض أو عَينٌ تَطرُف، بـاقـيـة ولَن نُساوم عَليها أو نَتنازَل عَنها حَتى يُظهِرَها الله تَعالى أو نَهلِك دونها ... لَن تَنحَسِر عَن بُقعَةٍ امتَدَّت إلَيها ولَن تَنكَمِشَ ... والحُدود التي رَسَمتها الأيادي الخَبيثة بَين بِلاد الإسلام ... قَد تَجاوَزناها، ونَحنُ عامِلون بِإذن الله تَعالى عَلى إزالتِها ولَن يَتوقَف هذا الزَحفُ المبارك حَتى نَدُقَ آخِرَ مِسمارٍ في نَعشِ مؤامرة سايكس وبيكو.
الرِسالةُ التي نُسِبَت إلى الشَيخ أيـمَـن الظواهري حَفِظهُ الله، فإن لَنا عَليها مؤاخَذاتٍ شَرعية ومَنهَجيةٍ عَديدة، وقَد خُيّرَ العَبدُ الفَقير بَينَ أمرِ رَبه المـُستَفيض، وبينَ الأمر المـُخالِف لأمر الله تَعالى، وبَعد مُشاورة مَجلِس شُورى الدَولة الإسلامية في العِراق والشام مِن مُهاجِرين وأنصار، ومِن ثَمّ إحالة الأمر إلى الهَيئة الشَرعية اخترتُ أمر رَبي عَلى الأمر المخالِف لهُ في الرِسالة قال تعالى: « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا»{».
إرباك ما بعده إرباك أصاب الجهاد الشامي برمته جراء خطاب البغدادي، وخسارات فادحة تكبدتها الأمة حين انقضّت دول « المركز» على « خطأ» الجولاني، واستصدرت قرارا من مجلس الأمن في 30/5/2013 بوضع « جبهة النصرة» على القائمة الدولية للإرهاب. وانحسار في مقارعة النظام، واستياء شديد إلى حد الغضب في كافة أرجاء العالم الإسلامي، وشعور بالخذلان والخزي مما بدا شماتة من القوى اللبرالية والعلمانية واليسارية التي طالما اتُّهمت من قبل الإسلاميين والجهاديين على السواء بالتآمر على الجهاد والمجاهدين وكره الإسلام ومحاربته فإذا بالطعنة تأتي من الداخل!!!
كانت التساؤلات التي طرحناها بدايةً، وعبّر عنها البغدادي بصيغة « كل ما سيقال»، هي ذات التساؤلات التي شغلت عقول الكثيرين من المتابعين والمعنيين بالشأن الجهادي العالمي!!! أما لماذا؟ فلأن الجميع سمع الخبر كما سمعه الأعمى والأصم وكذا الذين يعلمون والذين لا يعلمون والذين يستوون والذين لا يستوون. إذ لا وجود لأية مقدمات أو تسريبات أو إشارات أو استشارات من قريب أو من بعيد إلا، بحسب البغدادي، ممن: « نثق بدينهم وحكمتهم»!!! فمن هم أصحاب الحظوة هؤلاء إذا كان ذوو الشأن وعِلِّية القوم أنفسهم « لم يستأمروا أو يستشاروا أو يُخطَروا» !!!؟ سؤال قد يبدو استنكاريا، للوهلة الأولى، لكنه بقليل من التأمل يكشف عن مشكلات عميقة بين « القاعدة« و « دولة العراق الإسلامية» تسبق الحدث برمته، وتذكر بتصريحات لآدم يحيى غدن الملقب بعزام الأمريكي حين طالب بطرد « دولة العراق الإسلامية» من رحاب « القاعدة». لذا لم تنجح الوساطات التي توالت على الجانبين (« النصرة» و « الدولة») في تحقيق أية اختراقات موضوعية تنهي حالة الانقسام والتوتر بينهما.
لم يكن في خطابي البغدادي والجولاني ما يمس الآخر ظاهريا بقدر ما بدا الواقع الميداني والإعلامي مشحونا بين نشوة أتباع « الدولة» الذين بدا لهم كما لو أن الخلافة صارت قاب قوسين أو أدنى، ومرارة أتباع « النصرة» الذين تعرضوا لاستنزاف خطير في المقاتلين الذين بايعوا « الدولة» من جهة وكذا في خسارة ما حققته « النصرة» من مغانم عسكرية في السلاح والمنشآت والمقرات والممتلكات التي سيطرت عليها وجُرِّدت منها أو آلت إلى « الدولة» بحكم الواقع الجديد، فضلا عن الشعور بالخسارة الأهم فيما بدا مشروعا ناجحا محليا، وعلى مستوى الأمة، يجري هدمه دون مبرر إلا مما وصفه البعض بـ « حظوظ دنيا زائلة» أو تأصيلات شرعية وقراءات سياسية خاطئة.
وما أن أعادت « النصرة» بطريقة مذهلة بناء ذاتها من الصفر تقريبا حتى وجدت نفسها ثانية موضع اتهامات من قبل أنصار « الدولة» وقادتها وأتباعها بالخيانة والغدر ونكث البيعة والانحرافات المنهجية. ولعل أطرف ما في الأمر أنه رغم الكثير من الاتهامات الموجهة ضد « النصرة» إلا أن المطالب بعودتها إلى « الأصل» مستمرة دون توقف، بل أن صيغة « عودة الفرع إلى الأصل» هو الحل الوحيد الذي تتيحه « الدولة» أمامها!!! فما هي حقيقة تأسيس هذا الفرع؟
إذا تجنبنا التخمينات التي انتشرت هنا وهناك، وكذا لغة الأنصار والأتباع من الجانبين فضلا عن الخصوم والأعداء، واعتمدنا فقط على مصادر الطرفين فلن نجد لدى « الدولة» أية تفصيلات غير تلك التي أشار إليها البغدادي في خطاب الإعلان عن « الدولة». ففي الخطاب « وبشر المؤمنين» قال البغدادي أننا: « (1) انتدبنا الجولاني، وهو (2) أحد جنودنا، و (3) معه مجموعة من أبنائنا، و (4) دفعنا بهم من العراق إلى الشام، على أن يلتقوا بخلايانا في الشام، و (5) وضعنا لهم الخطط، و (6) رسمنا لهم سياسة العمل، و (7) رفدناهم بما في بيت المال مناصفة في كل شهر، و (8) أمددناهم بالرجال، ... وامتد نفوذ الدولة الإسلامية إلى الشام، ولم نعلن عنها لأسباب أمنية، وحتى يرى الناس حقيقة الدولة بعيدًا عن تشويه الإعلام وتزويره وتزييفه، وقد آن الأوان لنعلن أمام أهل الشام والعالم بأسره: أن جبهة النصرة ما هي إلا امتداد لدولة العراق الإسلامية وجزء منها».
في المقابل يخاطب الجولاني نفسه و « الناس» و « قيادات الجبهة» و « مجلس شورتها» في رده على خطاب البغدادي بما يوحي بأن « جبهة النصرة» لم تكن في واقع الأمر إلا مشروعا قدمه للبغدادي بعيد انطلاقة الثورة السورية ببضعة شهور، وليس مشروعا لـ « الدولة» كما ألمح البغدادي، فيقول :
« بعدما كُشفت بعض الأوراق أننا واكبنا جهاد العراق مذ مبدئه إلى حين عودتنا بعد الثورة السورية مع ما حصل لنا من انقطاع قدري ( لعله يقصد فترة السجن) إلا أننا قد اطلعنا على أغلب تفاصيل الأحداث الجسام التي مرت على مسيرة الجهاد في العراق واستخلصنا من تجربتنا هناك ما سرّ قلوب المؤمنين بأرض الشام تحت راية جبهة النصرة ... وما وددت الخروج من العراق قبل أن أرى رايات الإسلام تُرفع خفاقة عالية على أرض الرافدين لكن سرعة الأحداث بالشام حالت بيننا وبين ما نبتغي».
ويضيف:
« (1) شرفني الله عز وجل بالتعرف على الشيخ البغدادي ذلك الشيخ الجليل الذي وفى لأهل الشام حقهم ورد الدين مضاعفا و (2) وافق على مشروع قد طرحناه إليه لنصرة أهلنا المستضعفين بأرض الشام .. ثم (3) أردفنا بشطر مال الدولة، ثم (4) وضع كامل ثقته بالعبد الفقير و (5) خوّله بوضع السياسة، و (6) الخطة و (7) أردفه ببعض الإخوة وعلى قلتهم إلا أن الله عز وجل قد بارك فيهم وبجمعهم ... ».
ثالثا: وثيقة التأسيس
لا ريب أنه في كلا الخطابين ثمة جنوح نحو العموميات لا تتسع لها الخطابات. لكن النصين الواردين أعلاه يكادان يقفان على طرفي نقيض لجهة المبادرة بالفعل ورسم السياسات والخطط وما إلى ذلك. وبدلا من أن توضح « الدولة» هذا التناقض بادرت « النصرة»، بعيد اندلاع الاقتتال، وفيما يبدو ردا على صيغة « الفرع والأصل»، بنشر وثيقة رسمية، أقل من عشر صفحات، بعنوان: « الرد على شبهة أن الدولة هي من أسست النصرة»، كتبها « أحد المسؤولين» قبل خمسة شهور، ونشرها بتاريخ 25/2/2014، وحملها تفاصيل غير مسبوقة عن التأسيس والخلاف. وما تضمنته الوثيقة وردت غالبيته في خطاب عضو مجلس الشورى واللجنة الشرعية العامة في جبهة « النصرة»، أبي عبد الله الشامي الموسوم بـ: « لتبيننه للناس ولا تكتمونه – 4/3/2014». ثم جرى التأكيد على بعضها فيما عرف بخطاب الرد على دعوة العدناني لمباهلة الشامي في كلمته: « ثمَّ نبتهلْ فنجعلْ لعنةَ اللهِ على الكاذبينَ – 7/3/2014».
أما الوثيقة فتبدأ بطرح جدلية التأسيس بالقول: « إن الناظر في تاريخ تأسيس الجبهة يجد أن مقولة: الدولة هي من أسس الجبهة- بذا الإطلاق -، مقولة غير دقيقة». وتنتهي إلى القول بأن خطوة البغدادي انتهت إلى شق الصف الجهادي في الشام. أما في التفاصيل فتؤكد الوثيقة على أن:
أولا:
إن الجولاني هو من كتب « التقرير الذي يتضمن العمل في الشام» ورفعه إلى البغدادي الذي « علّق» عليه بالقول: « أوافق على كل حرفٍ كُتب في هذا التقرير، إن صاحب هذا التقرير لم يترك في تقريره مجالا لأن يُنقَد». وأن الجولاني طلب من البغدادي: « أن تقوم الدولة بتبني الجبهة من البداية، فرفض خشية فشل الجبهة، حتى لا يعود الفشل على الدولة».
ثانيا:
وأن الجولاني هو: « صاحب المشروع من ألفه إلى يائه»، وأنه هو من: « رسم مشروعًا كاملا للشام، وعرضه ... بكل خططه وأهدافه القريبة والبعيدة وتفاصيله على دولة العراق، وتمت الموافقة عليه، فأُرسل من العراق إلى الشام ليسير في هذا المشروع ... ورفدته الدولة ببعض المال وعددٍ قليلٍ من الرجال بينهم اثنان يُعدَّان من الكوادر». وفي مقابلته مع قناة « الجزيرة – 19/12/2013» ذكر الجولاني أنه: « تمت الموافقة بعد عرض خطة تقريبا شبه متكاملة، وهي مختصرة في نقاط محددة، ثم بعد ذلك قمنا مع بعض رفاقنا وخاصة الشاميين الذين بقوا هناك ولا يتجاوز عددهم تقريبا 7 أو 8 رجال أتينا إلى هذه الأرض في شهر رمضان الموافق للشهر الثامن الميلادي من عام 2011، وكان بعد بدء الثورة تقريبا بخمسة أشهر».
ثالثا:
وأن المشروع قام على أساس: « تلافي أخطاء العراق، وألا يُنقل واقع العراق إلى الشام، وأن لساحة الشام خصوصيتها التي تميِّزها عن ساحة العراق، وأن نبدأ من المائة التي وصلنا إليها في العراق وليس من الصفر الذي بدأه الشيخ أبو مصعب الزرقاوي رحمه الله، وكذلك مما تم إقراره أن للشيخ الجولاني صلاحيات واسعة وتخويلا عاما في الشام».
رابعا:
إن تأسيس « جبهة النصرة» هو ثمرة جهد مضني اضطلع به الجولاني، « ومن معه في الشام- من مهاجرين وأنصار بعددهم القليل في البداية»، ومساعده الشرعي العام، و: « لماّ تطوّر العمل ( ما بعد التأسيس) وبرز نجم الجبهة أُرسلت ( دولة العراق الإسلامية) بعض الشخصيات».
خامسا:
و « حتى نكون منصفين»، والكلام لكاتب الوثيقة، « إن الجبهة هي من أسست نفسها ورفدتها جماعة الدولة ببعض المال وقليل من الرجال ) حوالي ٧، اثنان منهم فقط كوادر(، وأما السلاح فمن أموال الجبهة».
سادسا:
وفيما يبدو ردا مباشرا على ما ورد في خطاب البغدادي من أنه: « أرسل الجولاني وزوّده بالخطط ورفده بالمال والرجال وربطه بخلاياه كما ذكر»، تقول الوثيقة:
• « إن الشيخ البغدادي يعلم يقينًا أن العمل بالشام بالنسبة له ولغيره من قيادات الدولة كان حلمًا ولم يكن مشروعًا، وأن من حوّل الحلم إلى مشروع له خططه ورؤيته وأبعاده وأهدافه و ..و ..هو الشيخ الجولاني». « حلم» يقول الجولاني، في مقابلته مع قناة « الجزيرة»، أنه: « كان في أذهان قيادة دولة العراق الإسلامية». لكنها لم تكن قادرة على دخول الشام، ذلك أن ( والكلام هنا للجولاني): « كل فكرة يجب أن تحمل من المقومات وتصل إلى درجة الواقعية، الشام لم تكن مهيأة لدخولها لولا الثورة السورية، ... هذه الثورة دفعت أو أزالت الكثير من العوائق التي مهدت لنا الطريق في الدخول والوصول إلى هذه الأرض المباركة».
• « ويعلم ... أيضًا أن المال الذي بُعث لا يكفي لتأسيس جماعةٍ على المستوى الذي رأيناه فيما بعد في جبهة النصرة، بل لا يكفي لمحافظةٍ واحدة؛
• وإن الرجال الذين جاءوا مع الشيخ إلى الشام منهم من أُرسل تخلصًا منه في العراق، ومنهم من كان يود الهروب من العراق، ومنهم من اعتذر عن المجيء حيث إن زوجه لم توافق، ومنهم من دخل الشام وبقي في المنطقة الحدودية حينًا ثم رجع؛
• ويعلم ... يقينًا أن الخلايا التي تحدَّث عنها في خطابه غير موجودة، اللهم إلا ثلاثة أشخاص كانوا قد أرسلوا قبل ذلك، ولما التقاهم الشيخ الجولاني في الشام سألهم عن عملهم في الشام، فقال قائلهم: صار لنا سنة ونصف نستطلع منطقة السومرية، فقال لهم الشيخ: هل معكم من سلاح؟ فقالوا: لا، ولا حتى قطعة مسدس واحدة، فقال: ومن أين تأتون بالمال، فقال: أحدنا يعمل موظفًا في أحد المعامل، والثاني يعمل في إحدى شركات الموبايل - سيرياتل أو إم تي إن -ليؤمنوا مصروفهم الشخصي. أي: لا مال لديهم ولا سلاح؛
• ويعلم ... يقينًا كذلك أنه لما أرسل الجولاني إلى الشام لم يزوّده لا بالمشاريع ولا بالخطط، وأن صاحب الخطة والمشروع بالكامل هو الشيخ الجولاني»؛
سابعا:
أما فيما يتعلق في البيعة فإن « جبهة النصرة» تأسست على أساس أن « دولة العراق الإسلامية» هي « قاعدة، فـ: « الدولة تُعتبر فرعًا لتنظيم القاعدة على أرض العراق، فهي تابعة للتنظيم العالمي ومركزه الأساس في أفغانستان وأميره الدكتور أيمن، ويشرف المركز على الأفرع. وعليه؛ فتبعية الجبهة للدولة ما كانت إلا لعلم الجبهة بأن الدولة جزء وفرع من التنظيم، وقد كانت الدولة تشرف على الجبهة كما تشرف خراسان على الدولة». وأنه: « لولا أن جبهة النصرة قاعدة لما بايعناها، ولولا أن دولة العراق الإسلامية فرع لتنظيم القاعدة على أرض العراق لما تمت مبايعتها ( و) لما أعطيناها صفقة يميننا وثمرة فؤادنا»، وأن البغدادي: « أكد ذلك بكلام لا يحتمل التأويل»؛ إذ قال: « إنه كان في عنقه بيعة للشيخ أسامة، ولما قُتل الشيخ تقبله الله بعث ... ببريد يجدد فيه البيعة للدكتور أيمن حفظه الله. وهو في كل جلساته يكرر أن الشيخ أيمن أميرنا وله علينا السمع والطاعة، وأن الدولة ما هي إلا فرع للتنظيم، وكان كثيرًا ما يجيبنا على بعض التساؤلات والمقترحات بأن المشايخ في خراسان لا يريدون ذلك». وتضيف الوثيقة: « كنا سابقًا سألنا الشيخ البغدادي السؤال التالي :هل الارتباط بخراسان يعدّ خروجًا عليكم؟ فأجاب بالحرف: الارتباط بخراسان ليس خروجا، وأنا لا مانع عندي من ارتباط الجبهة بخراسان مباشرة. وقال أيضًا: إذا ارتبطت الجبهة بخراسان أي بالتنظيم الأم مباشرة فهو ثقل يزول عن كاهلي أو كلمة نحوها» وفي المبدأ والمنتهى فإن: « علاقة الدولة بالجبهة هي علاقة إشراف».
ثامنا:
لكن المشكلات بدأت لما ظهر أن العلاقة تتجاوز « الإشراف» إلى « التدخل» و: « بشكل غير مناسب لظروف الساحة». و: « بدأ استنساخ التجربة بقولهم: (1) إن ساحة الشام نسخة طبق الأصل من ساحة العراق، ولن تصلح إلا بتطبيق النموذج العراقي، و (2) إن الآليات التي استخدمت في العراق لا بد أن تُستخدم هنا في الشام». و: « لما كثرت تدخلات الدولة في الجبهة بشكلٍ يعود بالضرر الكبير على الساحة قرر الإخوة في الجبهة كتابة رسالةٍ للدكتور أيمن حفظه الله يبيّنون فيها الحال، وهذا ما جرى فعلا». فرد البغدادي بالقول: « إذا كنتم تريدون كتابة شيء لخراسان فاكتبوا وأنا أرسله لكم، وخرجنا من المجلس وليس في نيتنا كتابة شيء، لكن لما وجدنا أن الأمر لم يتغير نحو الأفضل قررنا كتابة الرسالة».
تاسعا:
انفجرت المشكلة بإعلان « الدولة»، وقام الجولاني بإحالة المشكلة إلى خراسان للبت في الأمر. وتتابع الوثيقة القول: « حين علم الشيخ البغدادي بعزمنا على كتابة الرسالة أو كتابتنا للرسالة، بدأ يخطط هو وبعض من معه للإسراع بإعلان دولة مشتركة بين الشام والعراق، وهذا ما كان بعد أيام دون علم أحدٍ من جبهة النصرة سوى العدناني». وبدا واضحا، بحسب الوثيقة، أن: « المشروع الذي كان قبل المشكلة هو مشروع لا يمتّ إلى الدولة بصلة». ورأى مجلس شورى الجبهة وقياداتها أن: « حل المشكلة بأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل دخول الشيخ البغدادي إلى الشام بأن لا تتغير السياسة العامة التي سارت عليها الجبهة طيلة عام ونصف». إلا أن البغدادي رد « أمام أكثر من شخص» بالقول: « أنا أعلم أن إعلان الدولة في هذا الوقت خطأ، ولكن قمت به لأقطع الطريق على جبهة النصرة حتى لا تنفصل أو حتى لا تنشق على حد قوله. ولما سئل ( والكلام لكاتب الوثيقة) هو ونائبه؛ ما هو موقفكم من رد الدكتور أيمن؟ قال الشيخ البغدادي: إذا جاء الرد لصالح جبهة النصرة فسأقبِّل رؤوس أهل الشام، وأحمل "شوالاتي- "أي أمتعتي -وأعود إلى العراق. أما نائبه فقالها في كل مجلس كان يجلسه ومنها مجلسه مع الشيخ الجولاني. أعاهدك أنه إذا جاء الرد للجبهة، فكلنا جبهة .أما العدناني فأقسم على التزامه بالرد حين مجيئه».
عاشرا:
قدمت الوثيقة بعض الدفوعات على قرار البغدادي، في صيغة أسئلة ومقاربات، حول ما أثير من شبهات تتهم الجولاني بنكثه للبيعة منها:
• « إن إعلان الدولة الإسلامية إنما يكون لتطبيق الشريعة، أما إعلان دولةٍ لقطع الطريق على جبهة النصرة ... فلا أدري ما مستنده شرعًا»! ومع أنه: يعلم قبل أن يخطو تلك الخطوة أنها خطأ»، إلا أنه يرتكب « مخالفة» وليس خطأ فحسب حين: « يبرر فعله أنه اضطر لهذا لقطع الطريق على الجبهة». وفي المحصلة: « قطع للطريق على الدكتور أيمن نفسه؛ أي بممارسة سياسة الأمر الواقع عليه».
• وجهت الوثيقة سؤالا لـ « الإخوة في الدولة: ما رأيكم لو أن الشيخ أسامة وقتها جاء إلى العراق وبدأ ينازع الشيخ الزرقاوي الأمر بحجة أنه هو جنديُّه وتابعٌ له، وفي عنقه بيعة له، وهو – أي الزرقاوي -إنما تعلّم واكتسب الخبرة في أفغانستان»؟! كما هو حال الجولاني، « بل ما رأيكم لو أن الشيخ أسامة بعث بجماعةٍ من أفغانستان وقال لهم: اذهبوا إلى العراق وابدؤوا بتشكيل جماعةٍ هناك ولتأخذوا البيعات باسمي»!!
• هب أن الدولة من أسس الجبهة؛ فإن الجبهة إنما أُسست لتكون جماعة جهادية تجاهد لإعلاء كلمة الله وللوقوف في وجه أعداء الله والدفاع عن المستضعفين، وليس من أجل أن تكون تابعة للاسم الفلاني أو العلاّني. فهل حادت الجبهة عن غاية تأسيسها في جهاد أعداء الله والدفاع عن المستضعفين، وهل هذا هو وقت المنازعة في الشعارات والأسماء».
• وأخيرا خاطبت الوثيقة البغدادي قائلة: « يا شيخ؛ إن الجبهة ليست شركة ولا مؤسسة .. يملكها البغدادي ولا الجولاني .. حتى تلغيها بجرة قلم، ... بل هي ملك للأمة، .. أُسست على جماجم الشهداء وأشلاء الصادقين، وبناء عليه فلا يحق لأحد أن يتبنَّاها إلا بالخير»، .. باعتبارها .. « جماعة جهادية قامت ووفّقها الله مع بقية الفصائل للوقوف في وجه هذا الطغيان النصيري المدعوم بكلٍ من روسيا وإيران وحزب اللات، ومن وراء ذلك من دول الكفر العالمي، فالأولى بك يا شيخ أن تنظر في مصلحة الأمة لا في المصالح الشخصية».
رابعا: التعقيب على الوثيقة
(1) بدت الوثيقة أشبه ما تكون بإبراء للذمة أو مكاشفة يكون القول الفصل فيها للأمة، عامتها وخاصتها، إلا أنها لم تغلق باب المصالحة إذا ما التزمت بالأسس الشرعية التي تراعي المصالح العامة للأمة بعيدا عن المصالح الشخصية أو التنظيمية. لذا فقد حرصت الوثيقة على استعمال لغة معاتبة ذات أدب جم، حفظت بمقتضاها مكانة الشيخ أبو بكر البغدادي وبجلته، والتزمت بمخاطبته بصيغة « شيخنا». ومن الطريف أن ذات اللغة ميزت خطابات البغدادي والجولاني معا، بخلاف العدناني الذي تميز بلغة « استفزازية حادة»، وبخلاف لغة الشرعيين والأنصار من الجانبين.
(2) من الواضح من نص الوثيقة أنها صيغت بحرفية عالية جدا، وقدمت عرضا دقيقا للمشكلة، واستعملت « اليقينيات» في إثبات القول والفعل. كما قدمت دفوعات قوية خاصة فيما يتعلق بـ (1) التأسيس و (2) علاقة الجبهة بـ « الدولة» و (3) مسألة البيعة و (4) خلفية قرار البغدادي. ولا ريب أن هذه العروض، بقطع النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها أو حولها، وبهذه المنهجية، أوقعت « الدولة» بحرج بالغ. فهي لم تترك لها من خيارات إلا الرد عليها أو التزام الصمت.
(3) من الأوضح أن الوثيقة صيغت بـ « لغة تنظيمية» أكثر مما صيغت بـ « لغة شرعية». ولعلها المرة الأولى التي تصدر وثيقة بهذه اللغة، ويتم نشرها على الملأ من قبل جماعات « التيار الجهادي العالمي». ربما لأن موضوع الوثيقة هو خلاف تنظيمي استدعى لغة ملازمة للموضوع المطروح. لكن الحديث تنظيميا عن أخطاء بمستوى مخالفات شرعية تؤشر على أن الجماعات الجهادية بدأت تنزلق من كونها « أطروحة عقدية» إلى « أطروحة أيديولوجية» تحاكي بقية الجماعات الإسلامية التقليدية. وفي مثل هذه الحالة لا يمكن أن تنتهي اللغة الأيديولوجية، في ساحة تعج بالسلاح، إلا بصدامات سياسية أو أمنية أو مسلحة. وهو ما حصل في العراق والصومال وقبلهما في الجزائر واليوم في سوريا.
(4) أخبرت الوثيقة أن البغدادي تلقى تقريرا من الجولاني وليس من « الدولة»، وأن التقرير هو مشروع الجولاني وعقله وخبرته وتجربته ولا يمت بصلة لـ « الدولة» لا من قريب ولا من بعيد. ولعل أميز ما في الوثيقة أن البغدادي هو الذي حذر من مغبة نقل التجربة العراقية إلى الشام!!! هذه الجزئية على وجه التحديد ربما تفسر الأنباء التي تواترت من أكثر من مصدر أن البغدادي لم يكن سببا مباشرا في المشكلة الحاصلة في الشام، بدليل أنه قبِل تحكيم الظواهري وأبدى استعداده للرحيل لولا وجود شخصين في قيادة « الدولة» حالا دون تنفيذ القرار.
(5) فيما يتعلق برسالة الظواهري، وبغض النظر عن الرفض والإصرار على الواقع الجديد، فقد تعاملت معها « الدولة» بسلبية ملفتة للنظر!! وبحسب نص الرسالة فقد جاء في البند الختامي السابع منها ما يلي: « تسلم نسخة من هذا الحكم لكل من: أ- دولة العراق الإسلامية، ب- جبهة النصرة لأهل الشام، ج- فضيلة الشيخ أبي خالد السوري». وهذا يعني أنه ثمة ثلاثة أطراف تسلموا الرسالة. لكن الرسالة التي نشرتها وسائل الإعلام أخفيت من طرف « الدولة»، واضطرت للرد عليها باعتبارها « منسوبة« ليس إلا!! وشمل الإخفاء ما يشبه التضليل لكبار القادة العسكريين الذين قال أحدهم بأن الرسالة كتبتها امرأة في أفغانستان وأرسلتها إلى امرأة في حلب قبل أن تنشر باسم الظواهري!! ومع ذلك لم تعقب « القاعدة» ولا « النصرة» ولا « السوري»، على إخفاء الرسالة ولا على خطاب البغدادي الذي وصفها بالمنسوبة للظواهري ولا على ما أشيع من أن كاتبتها امرأة. فما الذي دفع « الدولة» إلى انتهاج هذا السلوك ( إخفاء، تشكيك، طعن منهجي وشرعي، وتضليل) في حين أنها تعلم يقينا أن الرسالة بحوزة طرفين آخرين غيرها التزما الصمت إلى أن تسبب تعميم التشكيك على قواعد « الدولة» وتحريضهم ضد « النصرة» بتسريب الرسالة صوتيا إلى قناة « الجزيرة».
(6) أهم ما في الوثيقة أنها أخبرت عن اجتماعات انعقدت بين « النصرة» و « الدولة» قبل خطاب البغدادي، وعن رسالة وجهتها « النصرة» للظواهري بموافقة البغدادي للفصل في الخلافات بين الجانبين. إلا أن البغدادي عاجل الرد بخطاب أعلن فيه عن التشكيل الجديد لـ « الدولة». وهذا يطرح سؤالا على « الدولة» في ضوء وصف « جبهة الجولاني» بـ « جبهة الغدر والخيانة» كما ورد في خطاب العدناني: « ثمَّ نبتهلْ فنجعلْ لعنةَ اللهِ على الكاذبينَ - مُؤسَّسَةُ الاعتصامِ لِلإِنتَاجِ الإِعلَامِيّ، جمادى الأولى 1435هـ - مارس 2014م». فبموجب الوثيقة فإن البغدادي، يغدو في موقف لا يحسد عليه من هكذا توصيفات.
لا ريب أن تحذير البغدادي من نقل التجربة العراقية إلى الشام مسألة تبعث على التأمل. فهي من ناحية تُحسب له لا عليه، ومن ناحية ثانية تبعث على التساؤل: لماذا يطلق البغدادي مثل هذا التحذير؟ وما هو محتوى الحذر من التجربة؟ ولماذا تجاوز البغدادي تحذيراته ذاتها؟ ولماذا يبدو أن معظم قادة « الدولة» الكبار انتقلوا من العراق إلى الشام!!!؟ وهل ثمة من أقنع البغدادي بالخروج عن النص أم أنه خارج عن النص أصلا؟ وهل فعلا أن أبي علي الأنباري وحجي بكر، وليس البغدادي، هما المسؤولان المباشران عن الفتنة في الشام؟
*************************
هوامش
(1) هذا ما ورد في تصريحات، المتحدث الرسمي باسم « الجيش الإسلامي» في العراق، إبراهيم الشمري، على قناة « الجزيرة».
* لو تتبعنا قضية أبو العبد أمير « الجيش الإسلامي» في العامرية لتبين لنا من تصريحاته لصحيفة الغارديان البريطاني (10/11/2007) بأنه قتل، لوحده قبل سنة من أحداث العامرية، ستة من عناصر وقادة القاعدة في العامرية دون أن تعرف القاعدة من هم القتلة!
(2) فتوى الشيخ حامد العلي: http://ift.tt/1jx5sCk
(3) كنا قد واكبنا الساحة العراقية بتفاصيلها آنذاك. ولا يسمح المجال لذكر التفاصيل والتصريحات المخزية التي صدرت تشرع للخيانة والعمالة في أبشع مضامينها. ومن يرغب في التعمق يمكنه مراجعة تغطيتنا لوقائع المشروع الجهادي في العراق على موقع المراقب: http://ift.tt/1h77WsB
**************************
الحلقة القادمة
الاستنساخ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق